في الحوادث الخطيرة التي تتعرّض لها الطائرات، وتنتهي الى تحطيمها، يهرع الخبراء للبحث عما يسمونه "العلبة السوداء"، وهي علبة يتمّ فيها رصد وتسجيل اللحظات الاخيرة للطائرة، قبل تحطّمها. ومن خلال فكّ رموزها، تُستقرأ اسباب تحطّم الطائرة او تهشّمها، وهو غيابها. على سبيل التمثيل او المقاربة، يقترب النص سواء كان قصيدة او أحدوثة او مسرحية او ما أشبه ذلك..، حين ينتهي الكاتب من كتابته، من ان يكون بمثابة طائرة محطّمة. فالنصّ حين يُنجز، يتحطّم.. ينتهي أو يغيب... وغيابه هو من جهة كاتبه. يقول هولدران: "بدأت بالصُداح عالياً، وحين انتهيت، انتهيت"... بمعنى انتهاء الكاتب من كتابته، وابتداء نصّه، من جهة اخرى، متمثلاً في شروع القارىء في القراءة. وهنا، في هذه اللحظة الفاصلة بين موت النصّ وولادته، يتمّ تحوير في الدور، وانتقال في كفالة النصّ من الكاتب الى القارىء. وهو تحوير خطير، كشفت عنه النقاب، ورسمت حدوده "التفكيكية" بأبدع ما يكون التصوير. لكأن دور الكاتب صار ان يتذكّر نصّه، وهو دور بمثابة المنتهي، لانه ينتمي للماضي الذي مضى ومات، في حين ان دور القارىء هو ان يفكك هذا النص ويركّبه، ويبتكره من جديد. وباختصار، ان يبدعه، الى ما لا نهاية، وهو إيلاء الناقد، في الوقت عينه، دوراً إبداعياً لا يقلّ عن دور الكاتب نفسه... بل لعلّ في هذه العملية من المتعة، ما يفوق هذا وذاك: ففي خلع الكاتب عن سلطة النص نصّه، وإماتته عنه، وإماتة النص فيه، توليد جديد للنص، بلا حدود مرسومة، وهو ما يلائم القرن القادم... قرن الاحتمالات. ان قراءة النصّ هنا، ايضاً، تشبه قراءة "العلبة السوداء"، للطائرة المحطّمة. وفكُّ رموزه وشيفراته، شبيه بفكّ رموز وشيفرات هذه العلبة. انها لاوعي النصّ، وذاكرته المفقودة - الموجودة، من خلال الرموز والإشارات والتنبيهات. و قراءة النص ايضاً، تغدو، كقراءة العلبة، قراءة الغياب. فالمعوّل عليه، في مثل هذه القراءة، هو قراءة المستور والمُقصى والمهمل، اكثر من قراءة البارز او المحفور أو الحاضر. فهذا البارز والمحفور والحاضر، هو حطام الطائرة - النصّ، وهو شاهد ولا حاجة لنا فيه، فتصويره أو تظهيره، لا يخدم شيئاً او يفيد في أمر، في حين ان المستور هو المهم... بل الأساس، وكشفه أو كشف الستر عنه، او نبش أحشائه، كل ذلك يجلوه في جوهره وفي سرّه، ويكتبه كتابة جديدة. هذا الفوات على ما فات، أو كشف الغياب، عوّل عليه فوكو في درسه التفكيكي الكبير. فهو إمام المستور، إن صحّ التعبير. وهذا المستور في النصّ غائر في اكثر من لجّة، ومتغلغل في اكثر من طبقة من طبقات اللاوعي، الفردي والجماعي، وواصل بجذوره الدقيقة والسحيقة الى قاع التشكّل البشري، والبداوة، والبدائية... وحتى إنسان الكهوف والمعارف الوحشية والبدائية. فمراوغاته ودهاليزه لا تنتهي. والنبش فيه نبش في بنيته الأنتروبولوجية. فلكل نص أنتروبولوجيا. واذا كان نصاً غنياً، اي كثير الإشاعات والدهاليز والمراوغات، فانه يغدو من المستحيل القبض عليه قبضة محكمة واخيرة. تصبح قراءاته مقاربات، وكل مقاربة اجتهاد وابتكار فيه. ويتعدد النص بتعدد القراءات. كانت العرب تسمّي هذا النوع من النصوص الغنية، نصوصاً ذات احتمالات، او حمّالة أوجه. ومنها بعض النصوص الدينية، وإشارات وتنبيهات بعض المتصوّفة والعرفانيين... وجملة كبيرة من الشعر الحديث العالمي والعربي. فهي نصوص ذات عتمات وتشظيات وخفايا. انها تتمتع بالفعل بغموض خلاب... وهو الغموض الضروري للحداثة ولما بعد الحداثة ايضاً. فالملاحظ، كما يقول ألبير قصيري، الروائي المصري الفرنكوفوني، ان الغرب، اليوم، لا يحترم سوى "الغامض". الغامض هو النصّ في حالي ولادته وتحطّمه. وفكّ شيفراته هو التعامل الخلاب معه بما يوازيه من اقتراحات، بل بما يوازيه من غموض وتفكيك وتصدّع. حتى لكأن الكتابة، والكتابة على الكتابة، أو قراءة الكتابة، ورشة لا تنتهي من فتح الإشكالات، على مصاريعها. فما سبق ولاحظه ابو حيّان التوحيدي من صعوبة "القول على القول"، وهي مهمة النقد كما كان يرى اليها، انتقل مع النمو المعرفي، وتراكم الخبرات المعرفية، من المستوى اللغوي القَولي الأوليّ الذي أشار اليه التوحيدي، وهو الألسني بالتعبير المعاصر، الى المستوى البنيوي الانتروبولوجي ومن ثم المستوى التفكيكي، المؤسس على جميع ما سبقه من خبرات ونظريات ومعارف، لا لكي يثبتها في تفكيكه، بل لكي يدمّرها ويشظيها... في تقنياته، ويعود بالنص الى اشلائه ودمائه الاولى. فالنصّ هنا بنية مفقودة في جوهرها، مثل طائرة مفقودة، وغيابها، وهو الاساس، هو غياب اللاوعي المكوّن لها، وهو غياب سحيق ومركّب وصاحب أحابيل، وأقنعة. وبُنية هذا اللاوعي شبيهة ببنية اللغة نفسها... بل لعلّ بنيته هي نفسها بنية اللغة كما يقول لاكان... اما العلبة السوداء فهي كل ما يتبقّى من النصّ.