كان مطر شديد يتساقط في تلك الليلة التي التقيت به فيها في ذاك الحي المنكمش من احياء المنطقة الشمالية. مبللاً، صعدت السلالم حتى الطابق الرابع. انفتح الباب على رواق بسيط المظهر يفضي الى صالون منظم تحتل جدرانه امهات الكتب مرتبة في ديكور من الرفوف على نحو فني بحيث ترى بين صف وآخر اما لوحة لفنان مشهور واما مرآة ينعكس على سطحها ظل مبهم. لاحظت غباراً على غلاف طبعة قديمة من كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر"، مسحته بورقة كلينكس. "هذا هو مصير الافكار، الغبار"، سمعته يهمهم وهو يتناول كأساً مليئاً بعصير البرتقال. - "أراك متشائماً كالعادة من الوضع وكأنه لم يعد لنا من مخرج ابداً"، بادرته. - "الوضع زفت، زفت"، أخذ يردد بعصبية واضحة. - قل لي ما رأيك في ثقافتنا، مثقفينا، عملية السلام؟ - ثقافت "نا"! انها عامرة بكل انواع الانحطاط السالفة. فهي مزدانة بالكاتب الاجير، بالناقد الأمي، بلصوص الأدب، بأسوأ المترجمين، بقراء يقرأون غلطاً، باصوليين لا أصل لهم ولا نسب، بعلمانيين مجهضين سلفاً، بقتلة من اجبن الانواع، بصحافيين اغبياء، بجيش رغم انفه، بحكام يخجل حتى طغاة التاريخ من دكتاتوريتهم. وبمجرد ان يفكر أحد في ان يكون مختلفاً عنهم، فان نعوت التخوين وهراوات التعتيم ستنهال عليه من كل جانب. يكفي ان تخدشهم عصا موسى التي ضيعتنا طوال خمسين سنة في اتون من الاوهام، حتى يكشفوا عن معدنهم الثقافي الصديء". قاطعه دخول مفاجئ لامرأة تناهز الخمسين: "السلام عليكم"، و"عليكم السلام"، اجبتها. انها جارته. "ألعب معها الورق من حين الى آخر". علمت انها سميرته الوحيدة منذ ان ماتت زوجته قبل سنوات. "اترككم تشتغلون" قالت وهي تغلق خلفها باب غرفة النوم على ما أظن. "في الحقيقة نحن العرب لدينا ما نتباهى به ضد اسرائيل. ففي اسرائيل الفاشستي فاشستي عن جد وأب، أي عن قناعة وايمان وبالتالي فهو ليس اجير أحد. والديموقراطي ديموقراطي حتى آخر نفس في وجه انحرافات النظام، لا تحيده أية سلطة عما يؤمن به. اما عندنا فالمثقف القوّام على مصيرنا بل على آمالنا واحلامنا مشدود الرِجل. وحتى لا يواجه ما يحمله الواقع الذي يعيش فيه من تعسف واضطهاد، يختلق عدواً وهمياً يصب فيه جلّ عجزه. السكوت شيمته والتعويض منهاجه. واذا تكلم، فانه يتكلم في كل شيء الا في الجوهر... وان رأيناه ينقد نظاماً ما فانه في الحقيقة يسدد فاتورة لصالح نظام آخر". لم ينزع نظارته طوال الجلسة، كان لها لون اسود غريب، وجهه مليء بالتجاعيد، لقد صهرته الاحداث والانكسارات بحيث باتت يده ترتعش عند لمس أي شيء. قلت له: "لِمَ لا تؤلف كتاباً بعنوان: "ما لدينا ليس لدى اسرائيل"، مثلاً؟" اجاب بنبرة ساخرة: "ما الفائدة؟". "لا أدري، للتوعية، للتحريض..." اجبته. - بتعرف لو ان تلك الدولة توقّع مجرد توقيع مع اسرائيل، لكنا رأينا انتلجنسيا اللاتطبيع أول الزائرين "للكيان الصهيوني هذا"، ولسمعناهم ينددون بتأخر الفلسطينيين الى حد تمجيد "تطور اسرائيل الحضاري" وبالتالي تبرير الاضطهاد الاسرائيلي للشعب الفلسطيني، وبنفس البلاغة المرصعة بها خطاباتهم المضادة للتطبيع... انت عارف هذا أو لا؟ "كلا. لا اعرف..."، همهمتُ وأنا ألمح ذبابة تدور حول كتاب موضوع فوق الطاولة لم أتبين عنوانه. "آه كم أودّ ان ابادر بفعل يتنافى وما أؤمن به: ان اسجل سراً احاديثهم عندما ينفردون بينهم، أو ان اصورهم وهم يتملقون أي كاتب اسرائيلي يزور باريس أو لندن... حرباويون يعرفون من أين تؤكل القضية". كنت اشعر بوخزة عند كل كلمة تخرج من فمه. كان الوقت متأخراً، ودعته على أمل ان نواصل الحديث بأمور اخرى. طوال أشهر لم أتصل به. لكن كم أشعر الآن بحزن شديد وأنا أقرأ الخبر التالي المنشور في الصفحة الاخيرة من جريدة مهملة: "توفي الكاتب المغمور إثر سكتة قلبية مفاجئة. وجدته جارته جثة مطروحة فوق الدرج، وورق كثير لم يُحبّر بأي كلمة كان قد تناثر اسفل السلم حيث لبثت نظارته. يقال انه كان ذاهباً الى مقهى قريب للشروع في اعداد دراسة حول المسيحية الصهيونية مفادها: كيف استفادت الحركة الصهيونية من تيار أصولي، بدأ بالظهور منذ القرن السابع عشر، يدعو انطلاقاً مما جاء في الكتاب المقدس ونصوص آباء الكنيسة والقديسين الى مساعدة يهود العالم في العودة الى فلسطين ليواجهوا عقاب الآخرة في القدس عند رجعة المسيح الثانية. وكيف يستخدم، منذ قرن، واحدهما الآخر هذا التيار الاصولي والحركة الصهيونية رغم الاختلاف الشديد بين الهدفين ليعجل في تحشيد القدس بكل يهود العالم. مستخلصاً ان الصمت الاميركي خصوصاً ازاء تهويد القدس لا يحركه اللوبي الصهيوني بقدر ما تحركه هذه الأصولية المسيحية الطهرانية المبثوثة في وعي اميركا السياسي"! كاتب مغمور! ما اسمه؟ من هو؟ انه هذا الذي يسمى في حوليات الحياة اليومية "أي كان". ضميرنا المؤنب، وجهنا الآخر الممحي الذي غالباً ما نحاوره عندما لا يكون هناك احد. ا نه البدائي الذي يسرنا بافراحه واتراحه عند منعطف الحلم أو في احدى ردهات الواقع، فننتحل رؤاه الثاقبة ثم نتجاهله طيفاً عابراً. لعله صعد الآن الى دار الخلد. لكن نظارته - عينه الصاحية تبقى، رغم الشرخ الذي اصابها، محتفظة بسوادها الناصع وكأنها مرآة من مرايا العرّافة الاولين يكشف جرمها البلوري عن مستقبل تقشعر منه الابدان.