لا شيء أعز على قلوب الحكام التوتاليتاريين من توقيت اعلان قرارات أو خطوات "مصيرية" مع حلول مناسبات "انتصارية"، وهي هكذا دائما لأن من غير المعقول أن يفعل أمثال هؤلاء الزعماء شيئا إلا وكان انتصارا تاريخيا مبيناً. ولعله ليس هناك زعيم من هذا النمط يمكن أن يضاهي صدام حسين في هذه الموهبة. "إحتفل" صدام أمس بمرور سبع سنوات على بدء الهجوم الجوي، "العدوان الثلاثيني" كما وصفه هو، على العراق لإخراج قواته من الكويت في عملية "عاصفة الصحراء". صدام استقبل الحرب آنذاك مهدداً ومتوعداً "قوات أميركا" بالويل وبتحويل دماء جنودها بحراً يغرق به الصحراء. ولكن بعد 100 ساعة فقط من بدء "العاصفة" أنجزت قوات التحالف مهمة تحرير الكويت وطوقت نخبة قوات "الحرس الجمهوري" الصدّامي داخل العراق ملحقة بها واحدة من أكثر الهزائم المهينة التي يمكن أن يتعرض لها جيش. واستقبل صدام امس هذه المناسبة، كما قبل سبع سنوات، مهدداً ومتوعداً مجلس الأمن بأنه سينهي "التعاون" معه اذا لم يرفع العقوبات خلال ستة أشهر، والولاياتالمتحدة بأنه سينتصر عليها في "أم معارك" ثانية إذا شنت هجوماً عسكريا على العراق. ولكن ما أغرب المفارقة المتمثلة في قدرة الولاياتالمتحدة على حشد أكبر تحالف والتصدي بثقة كاملة لمواجهة صدام آنذاك وضعفها وحيرتها وارتباكها في مواجهته الآن. ويزيد المفارقة سخرية أن صدام كان في ذلك الوقت في ذروة قوته، بينما هو اليوم ضعيفٌ لا حول ولا قوة له ولا يستطيع الخروج من الصندوق بعدما أنهكته سبع سنوات من المحاصرة والعزلة في ظل نظام للعقوبات هو الأشد في تاريخ الأممالمتحدة. أليس هذا ما تؤكده للعالم ليل نهار إدارة الرئيس بيل كلينتون؟ بعبارة اخرى، مواجهة صدام وهو في ذروة قوته كان يمتلك رابع أقوى جيش كما أفتى خبراء أميركيون في 1991، كانت أسهل بكثير من مواجهته وهو في "ذروة" ضعفه في 1998! فالولاياتالمتحدة قادت "عاصفة الصحراء" بمشاركة الغرب كله والاتحاد السوفياتي ودول اوروبا الشرقية ومعظم الدول العربية ودعمها وكان يقف وراء جيوشها مجلس الأمن بقراراته الضامنة لشرعية التحرك العسكري الدولي ضد الغزو العراقي للكويت. ولم تكن هناك جهة تتمتع بصدقية وجدية تقف مع صدام، طبعاً باستثناء "ثوريين" هنا وهناك كانوا أعجز من أن يستوعبوا حقيقة أن العالم كان يشهد نهاية الحرب الباردة وهزيمة الشيوعية العالمية ووقوف رمزها، الاتحاد السوفياتي، على عتبة التفكك. وكيف هي حال صدام اليوم وهو في "صندوق"؟ مجلس الأمن منقسم على نفسه وروسيا، كأنها اتحاد سوفياتي سابق، تقف بقوة الى جانب صدام تدعمه وتنصحه وتنسق معه خطواته لمواجهة واشنطن واستغلال نقاط ضعفها. وقبل اسابيع فقط صُدِم الرئيس كلينتون بعالم عربي إتحد بموقف رافض لضربة عسكرية أميركية ضد صدام، طالما ان هدفها ليس إطاحته. "أونسكوم"، التي كانت بعد "أم المعارك" مباشرة، تصول وتجول بحرية في مملكة صدام، صارت الآن لعبة في يديه، يجبرها على أن تفعل ما يحدده هو وإذا رفضت يمنعها من العمل ويطرد أعضاءها الأميركيين من دون خوف من عقاب أو حتى رد جدي. يفعل صدام هذا كله وهو يسابق الزمن لاعادة بناء ترسانة اسلحته للدمار الشامل، أي تحديداً هذه الأسلحة التي فرضت العقوبات عليه وانشئت "أونسكوم" من أجل نزعها. أما "أم" المفارقات فهي أن تهديدات صدام عشية "أم المعارك" كانت جوفاء مع أنه كان قويا، بينما تهديداته اليوم جدية مع أنه ضعيف. في المقابل كانت الولاياتالمتحدة حازمة في تهديداتها لصدام آنذاك وهي ليست كذلك الآن