ربما كان الحدثان الاحتفاليان الأشد اتصالاً بالعرب في هذا العام هما مرور مئة سنة على كتابة الأديب الفرنسي اميل زولا المقالة - الرسالة الشهيرة بعنوانها "إني أتهم"، ومرور خمسين سنة على نشأة دولة اسرائيل. ومع ان المناسبة الأولى لن تحظى باهتمام العرب، إلا انه سيبقى مستحيلاً من دونها فهم المناسبة الثانية. فزولا في "إني أتهم" دافع عن الضابط اليهودي الفرنسي الفريد درايفوس الذي اتهم زوراً بالتجسس للألمان. وقبل ان تثبت براءته جاء تلفيق التهمة ليدل الى ان المساواة التي انشأتها الثورة الفرنسية لم تنجح في تذليل اللاسامية. هكذا تلاقى الاحباط الرجعي الكاثوليكي رداً على الجمهورية الثالثة، بل رداً على الثورة الفرنسية بمجملها، مع الاحباط العسكري الامبراطوري بعد الهزيمة مع المانيا في 1870 - 71، فكان اليهود الفرنسيون المندمجون، مرة أخرى، كبش المحرقة المطلوب. وإذا بات شائعاً ان الصحافي ثيودور هرتزل، ابان تغطيته محاكمة درايفوس في باريس، "اهتدى" الى فكرة الدولة اليهودية ضامناً وحيداً لحياة اليهود، فإن مأساتين أخريين كان ينبغي حصولهما لاعطاء ما توصّل اليه هرتزل كل الزخم والقوة: الأولى، تبني الثورة الروسية، عملياً، للاسامية، لا سيما في السنوات الستالينية. والثانية، وهي الأمرّ والأقسى، قيام النازية وشقيقاتها الصغرى في المانيا وأوروبا الوسطى، ومن ثمّ المحرقة التي ترتّبت على ذلك. هذه الكوارث كانت كلها مطلوبة لجعل خيار الدولة اليهودية في فلسطين خياراً فعلياً، الشيء الذي انتج كارثة أخرى ألمت، هذه المرة، بالشعب الفلسطيني. والراهن اننا تحت وطأة الكارثة الأخيرة فقدنا القدرة على تعيين الأسباب وفهم مصادر ما ألمّ بنا. واستمر هذا التجاهل وصولاً الى تخوين كل من يحاول الربط بين حلقات وتداعيات تاريخية لا مهرب من الربط بينها. أبعد من هذا، اندفعت نُخبنا لا جماهيرنا فحسب الى التحالف مع كل من يرفض التاريخ ويعارض اتصال بعضه بالبعض الآخر، حائلاً دون فهمنا ما جرى لنا، ودون اكتسابنا حسّاً انسانياً رفيعاً لا يمكن طرح المشكلة الفلسطينية إلا من ضمنه وداخله. في هذا المعنى وصف "اتحاد الكتاب الفلسطينيين" في القدس، يوم الأحد الماضي، محاكمة روجيه غارودي في باريس بپ"العار والمحنة" اللذين "استدرج اليهما القضاء الفرنسي من جانب جماعات عنصرية معروفة". ولم يتردد بيان الاتحاد في ان يضيف: "نحن الكتّاب والشعراء والمثقفين في فلسطين، في كل مواقعنا الثقافية والنقابية، نعلن عن تضامننا مع المفكر والأديب روجيه غارودي في مواقفه الشجاعة لتكريس حرية الفكر والابداع". وبدورها احتجت نقابة الصحافيين المصرية على المحاكمة التي يتعرض لها غارودي، ودعت في بيان أصدرته أمس الأول، المواطنين والمثقفين وطلبة الجامعات الى ارسال برقيات احتجاج الى الحكومة الفرنسية في هذا المعنى. وأكد اتحاد المحامين العرب على مواصلته الدعم لغارودي وتشكيله هيئة من بعض النقباء للدفاع عنه، وهكذا دواليك… والحال ان مضينا في رفض تصديق "اسطورة" الملايين الستة، و"اسطورة" غرف الغاز بمثل هذه الحماسة، لن يضفي إلا الأسطورية على قضيتنا في العالم.