بعد سقوط آخر الممالك العربية في الأندلس عام 1592 تنقل الملوك المسيحيون بعاصمتهم من اشبيلية إلى قرطبة ثم غرناطة ثم طليطلة، إلى ان قرر فيليبي الثاني تحويل مدريد إلى عاصمة لمملكته عام 1606. ومنذ تلك اللحظة تحولت المجاري المائية التي أنشأها العرب في جوف الأرض لتنقل المياه من الجبال المحيطة إلى مدريد إلى أهم معلم تتميز به المدينة بين كل العواصم الأوروبية. وتزحف المباني الحديثة باستمرار على أركان المدينة مما تسبب في ضياع الارث المعماري العربي تحت وطأة الزحف العمراني، من دون ان تتبقى منه سوى قطع متناثرة هنا وهناك، أهمها السور المحيط بها الذي يطلقون عليه اليوم اسم "لا مورايا اربي". ويبدو ان مابني مدريد العربية لم تكن معمرة مثل المدن الأندلسية الكبرى الأخرى مثل قرطبة واشبيلية أو غرناصة أو طليطلة، إذ لم يعد فيها إلا بعض الآثار الباقية لبيوت قديمة إلى جوار السور، والابراج الموريسكية، كما بقيت بالطبع المجاري التي تروي المدينة ولا تزال الدولة تحاول حمايتها على رغم عدم استخدامها في الوقت الحالي. وبمرور الوقت حملت احياء مدريد القديمة اسماء عدة، ونسي الشعب الاسباني من علاقة المدينة بالعرب إلا اسمها، فاطلقوا على أحيائها القديمة الكثير من الاسماء أشهرها اسم مدريد "النمسوية" تيمناً بأصول الأسرة الحاكمة التي بنت القسم الأكبر من مباني وسط المدينة. وتاريخ مدريد الذي يعرفه ساكنها ليس له علاقة بتاريخها الحقيقي، إذ امتزجت الاسطورة بالواقع، وكتب أهلها تاريخاً جديداً، وضعوا فيه كل ما اشاعوه عن مدينتهم التي باتت اليوم إحدى أهم المدن بين العواصم الأوروبية. حيّها القديم ترتبط اسماء اجزائه وشوارعه بالكثير من الاساطير التي يمكن أن تكون لها شبهة من الصحة، أقدم مناطق المدينة يطلق عليه اسم "لافلييس" أو ما يمكن ترجمته بالعربية إلى "غسيل القدمين". تقول حكايات المدينة إن الملك كان يريد الحفاظ على نظافتها، فأصدر قانوناً يمنع الغرباء من دخولها إلا عن طريق بوابة تطل على ميدان به نافورة مياه، وضع عليها حارساً يأمر الحفاة بغسل أقدامهم قبل الدخول إلى العاصمة الملكية، ومن يمتنع عن تنفيذ تلك الأوامر الملكية يمنع من الدخول. ولا تزال تلك النافورة قائمة في الميدان ذاته، ولكنها تكاد لا تستخدم حالياً، بعدما ضاعت ملامحها بين الزحام الشديد الذي يميز وسط المدينة القديمة. وتحاول أن ترفع رأسها من وقت لآخر وأن تتنفس بين جدران الاسمنت وبوابات الأسواق المعاصرة التي تجذب أنظار المارة بأضوائها، إلا أنها لا تلبث أن تختفي على استيحاء. والسائح الذي يريد التعرف على الحي القديم الذي يسمى أحياناً الحي اللاتيني لا لاتينا يمكنه أن يبدأ بميدان "غسيل الأقدام" ومنه يتوجه إلى شارع "ميزون دي باريديس" الذي يضم أشهر المساكن المبنية على طراز معماري خاص يطلق عليه اسم "لا كورالا" وتضم هذه المباني طوابق عدة كل طابق به مجموعة كبيرة من الممرات التي تطل عليها مساكن الفردية، هذه الممرات تكاد ان تكون بمثابة شوارع ترتفع فوق بعضها البعض. وتطل المباني المتبقية من هذا الطراز، على ساحات صغيرة مفتوحة طوال العام لابناء ساكني هذا المبنى، لكن ما أن يأتي الصيف حتى يتحول إلى مسرح في الهواء الطلق، تقدم عليه فرق متميزة في المدينة أعمالاً مسرحية من نوع "ثارثويلا" وهو فن اسباني مدريدي يلعب الغناء والرقص الشعبي فيه دوراً مهماً يشبه الأوبريت في مصر والعالم العربي، وعادة ما تدور أحداث هذه الأعمال في الحي القديم ذاته. دون خوان يضم هذا الشارع أيضاً أشهر حانة قديمة كانت مستقراً للكثير من مصارعي الثيران المشهورين حتى وقت قريب، وهي حانة "انطونيو" التي يجد السائح فيها تاريخ تلك الرياضة التي يعشقها الاسبان عشقهم لكرة القدم إن لم يكن أكثر. هناك يلتقي المصارعون القدامى مساء كل سبت، ليستعيدوا الذكريات المسجلة على حوائط الحانة، من خلال الصور الفوتوغرافية التي يعود بعضها إلى بداية هذا القرن. عند الخروج من الحانة يواجه الزائر ميدان "تيرسو دي مولينا" ذاك الكاتب المسرحي الذي حاز على شهرة واسعة واستحق ان يخلد اسمه على هذا الميدان. ولعل أبرز أعماله المعروفة هو التحفة الابداعية التي خلدت العاشق "دون خوان". وعندما يغوص الزائر قليلاً باتجاه اليمين يجد نفسه في شارع "اماخادورس" أو شارع "السفراء" الذي استقى اسمه من تاريخه القديم عندما كان يضم سفارات الدول الأجنبية، إلا أن الزمان دار عليه وأصبح من أفقر الأحياء. ويقيم في الشارع مجموعة كبيرة من الغجر والمهاجرين الاجانب الفقراء من المغرب ودول أميركا اللاتينية الذين ألقوا رحالهم في مدريد نتيجة الازمات الاقتصادية والسياسية التي تعصف ببلادهم، ويسكن الحي أيضاً شباب أوروبيون يبحثون عن نكهة الاحياء القديمة، وأكثرهم ينتمي إلى "الفلسفة الهيبية" مما يجعل الحي سوقاً رائجة لكل أنواع الممنوعات. بالقرب من هذا الميدان هناك الشارع الرئيسي الذي تقام فيه السوق التقليدية للمدينة وهي سوق "الأحد" التي يمارسون فيها كل شيء من مهنة التجارة حتى السرقة والغش والخداع. أما الطرف الآخر لميدان تيرسو دي مولينا فيؤدي إلى ميدان "بويرتا ديل صول" أو "بوابة الشمس"، حيث يقوم مبنى بلدية المدينة، وأمام بوابته العتيقة التي تعود إلى العهد الاستعماري، هناك الكيلومتر "صفر" الذي يشير إلى الجهات الأربع. وهذه النقطة تعتبر نقطة اللقاء التي تحدد وجود العاصمة في المنتصف تماماً من المملكة الاسبانية: أمامها مباشرة يقف رمز مدريد "دب بري يلتقط حبة برتقال من الشجرة" حيث كانت الدببة منتشرة في أنحاء المنطقة، لكن رحلات الصيد الارستقراطية قضت عليها، ولم يعد هناك سوى عدد قليل منها يخضع لحماية الدولة. حبات عنب... كاملة تتوسط مبنى البلدية الساعة الشهيرة التي ينتظر الاسبان دقاتها ليلة رأس السنة للاحتفال بتلك الليلة السعيدة، حيث يتجمع آلاف وفي أيديهم أكياس صغيرة تحتوي على 12 حبة عنب. يقول العارفون إن من يستطيع ابتلاع حبة كاملة بعد مضغها مع كل دقة من دقات الساعة وهي تعلن منتصف الليلة تتحقق امانيه في ذلك العام. إلى جوار ميدان "بويرتا ديل صول" إلى اليسار من مدخل مبنى البلدية يوجد أشهر ميدان عام مغلق أمام السيارات ومخصص للمشاة فقط، وهو ميدان "بلاثا مايور" المبني على طراز خاص يشبه إلى حد كبير طراز المباني المعمارية الايطالية، أو "بواكي" شارع محمد علي في مصر. وتمت إقامة هذا الميدان مطلع القرن السابع عشر، وصممه المعماري الاسباني الشهير غوميث دي مورا، وهو عبارة عن مجموعة من المساكن المطلة على الفناء الداخلي للميدان وليست به أي نافذة، بل تتكون واجهاته من شرفات من طراز واحد وبمقاسات موحدة. وكان الميدان عبارة عن مكان لاقامة الاحتفالات الملكية. ويتوسطه تمثال لابن الملكة ايزابيل الثانية، يقال ان أسفله كان عبارة عن سجن على شكل كهوف تحت الأرض ترتبط ما بينها بممرات داخلية، لكن مع مرور الزمن تحول طابقه السفلي الى حوانيت تخصصت في بيع القبعات من كل شكل ولون، وكان المألوف ان المدريدي يغطي رأسه بقبعة حسب المهنة أو المكانة الاجتماعية، ويذكر أحد المؤرخين انه في وقت من الأوقات القريبة زمنياً، كان المدريدي لا يشاهد من دون هذه القبعة الا اذا كان وقع له حادث أفقده قبعته، أو كان يبحث عن طبيب لعلاج مريض عزيز عليه. تعرضت مباني الميدان لحريق مدمر عام 1790 أتى على جزء كبير منه، فعهدت الدولة الى معماري شهير لاعادة البناء مع الحفاظ على الطراز المعماري السابق، وبالفعل قام المهندس "خوان دي فيانويبا" باعادة بناء الميدان، لكنه لم يصل بارتفاع البيوت الى عدد الطوابق التي كانت عليها من قبل، مما اضطر السكان الى خفض عدد طوابق الأجزاء القديمة لتكون على المستوى نفسه الذي يقوم عليه ارتفاع الجزء الجديد، ويذكر المؤرخون ان اقامة آخر بيت في الميدان تمت منتصف القرن التاسع عشر. الغطاء التقليدي ميدان "بلاثا مايور" تحول الى مكان من الأماكن السياحية التي يأتيها الزوار من كل مكان،پوتحولت حوانيت القبعات الى حوانيت لبيع التحف والهدايا التذكارية أو الكافيتريات التي نشرت كراسيها في ارجاء الميدان، ولم يتبقَ من حوانيت القبعات القديمة سوى القليل، بعدما نزع الاسباني عن رأسه ذلك الغطاء التقليدي. اما الكهوف التي تقع تحت الأرض فتحولت الى أشهر حانات السهر التي لا تزال تحافظ على التقاليد المدريدية الأصيلة، والمشروبات المقدمة فليها تقليدية لا سيما "السنغريا" المعروفة، اضافة الى تقديم أطباق الأسماك المقلية بأنواعها المختلفة، وعادة ما يرتدي العاملون في تلك الأماكن ملابس تعود الى القرن الماضي، يغلب عليها اللون الأسود. وترتاد تلك الأماكن فرق موسيقية معروفة أيضاً بملابسها التي تعود الى القرن السابع عشر، والتي تشبه الى حد كبير ملابس مسرحيات شكسبير التاريخية مثل هاملت وغيرها. وتتألف تلك الفرق عادة من هواة الموسيقى من طلاب الجامعات، حيث تحمل كل فرقة اسم كلية من الكليات الجامعية، ويذكر أحد أعضاء هذه الفرق انها تعود الى القرن السابع عشر عندما كان طلاب الجامعات "يفعلون أي شيء الا الدراسة"، وكل أغانيهم من الأشعار الرومانسية القديمة التي تتغنى بمحاسن الحبيبة. ويلفت الانتباه الى أفراد تلك الفرق بعض الأشرطة الملونة التي تتدلى من الصدر والكتفين، التي تدل على عدد المحبات، لأن كل شريط ينتمي الى احدى "حبيبات القلب" اللاتي يقدمنها دليلاً على حبهن، لذلك يمكن معرفة عدد المعجبات من عدد الأشرطة التي يحملها كل منهم. فنانون عرب اما الميدان نفسه فقد تحول الى مقر للفنانين الهائمين على وجوههم لكسب كسرة الخبز، حيث تتجمع في وسطه وتحت اقبيته مجموعة من الفنانين الذين يعرضون فنونهم على الزائرين، أو يعرضون على الزائر تخطيطاً كاريكاتورياً مقابل مبلغ زهيد. والمدهش ان أكثر هؤلاء الفنانين من الاجانب، وبينهم قدر كبير من الدول العربية مثل مصر والعراق والجزائر والمغرب وسورية، يحاول بعضهم تغطية مصاريف الدراسة، أو تقديم نفسه الى الجمهور مباشرة، نظراً الى احتكار كبار الفنانين قاعات العرض الكبرى ومحلات بيع اللوحات التي تبحث عن الأسماء الشهيرة وتتجاهل الآخرين في هذه الغابة الفنية. اما قلب الحي اللاتيني "لا لاتينا" فتتحول أيام الأحد الى أهم وأشهر سوق غجرية "الراسترو" ويمكن للزائر ان يشتري فيها كل شيء من الابرة الى السيارة. والشائع ان أكثر المعروضات مسروقة وهو على رغم ذلك يباع علناً. وهو سوق "الراسترو" الذي يجب ان يحترس الزائر فيه، سواء من السرقة التي يمارسها الغجر بمهارة فائقة، أو ان يتعرض لعملية غش علني فيعود الى بلاده بأسوأ ذكرى تعسة يمكن ان تعكر عليه صفو الجمال الذي يلف المدينة وما حولها. نقطة الصفر مدريد - "الحياة" - دائرة صغيرة تشير الى الاتجاهات الأربعة، قد يعبرها المارة من دون ان يعيروها انتباهاً، مع ذلك فإن هذه النقطة الصغيرة التي تواجه بوابة بلدية مدريد في أهم ميادينها "بويرتا ديل الصول" أو "بوابة الشمس" هي نقطة البداية والنهاية ما بين شمال وجنوب البلاد، والنقطة الفاصلة ما بين شرقها وغربها ولعل العاصمة الاسبانية تكون العاصمة الوحيدة في العالم التي تتوسط بلادها تماماً. ربية الاسم فقدت ملامحها مدريد - "الحياة" - ربما كان اختيار مدريد كعاصمة لاسبانيا المعاصرة تم بمحض الصدفة، لكن ليست الصدفة وحدها التي اختارتها لتكون مقراً للحكومة المركزية. واسم "مدريد" عربي الأصل، ومأخوذ من "كلمة" محرّفة عن الكلمة العربية وتلفظ "مجريط". وكانت المدينة حتى القرن التاسع الميلادي مجرد قرية جبلية يقطنها بعض الرعاة، لكن العرب أرادوا ان تكون فيها قلعتهم التي تحمي حدودهم الشمالية من الاعتداءات المسيحية، لذلك بنوا في البداية قلعة حصينة لصد الغارات القادمة من الشمال. وأقام القلعة الأمير محمد بن عبدالرحمن 852 - 866، الا ان العزلة التي كانت تعيشها القرية بعيداً عن الانهار، عدا نهرها الصغير "المنثاناريث" وقلة المطر في السهول المحيطة بها، أديا الى التفكير في طريقة لتزويدها بالماء في حال تعرضها لأي حصار عسكري، ومنذ تلك اللحظة بدأ شق المجاري المائية الشهيرة، التي كانت تمتد تحت بيوتها على غرار أنابيب المياه في البيوت المعاصرة، وكان يتعين على كل بيت ان يفتح فتحة صغيرة لينال حاجته من الماء، هذه المجاري السفلية ميزت المدينة عن غيرها، ومنها استمدت اسمها "مجريط" الذي تبدل مع مرور الزمن ليصبح "مدريد". شارع "القرنفل" مدريد - "الحياة" - شارع "القرنفل" نال شهرته من قصة حب غريبة وقعت في عهد الاحتلال الفرنسي في القرن الثامن عشر، اذ قامت فرنسا بتعيين جوزيف بونابرت ملكاً على اسبانيا، وهو الزاهد في هذا المنصب الذي لم يرغبه ابداً. ويفسر هذا الأمر، ربما الرفض المتبادل بينه وبين الشعب الاسباني، إذ كان الملك الفرنسي الدخيل محاطاً بكراهية الجميع، حتى أولئك الذين كانوا يعملون في خدمته. وفي هذا المناخ الخانق تعرف الملك على سيدة ارستوقراطية "كوبية الجنسية" من أصل اسباني كانت تقيم وحيدة في مدريد، وبدأت بينهما قصة حب غريبة، مبعثها العزلة التي احاطت بحياة كل منهما، وظلا يلتقيان سراً في حديقة البيت الذي كانت تقيم فيه. الا ان تعاسة الملك كانت مؤكد، اذ تغلب المرض على حبيبته فماتت فجأة، وتم دفنها في مقبرة اقيمت لها في وسط مدافن العاصمة، وما ان حل المساء حتى تسلل بعض الرجال وحملوا الجثمان الى بيتها من جديد، حيث اقيمت لها طقوس جنائزية خاصة تليق بها كحبيبة للملك "جوزيف بونابرت".