على مدار العقود السبعة من إقامة إسرائيل، انتهج سدنتها سياسة واحدة في تبرير عمليات القتل والتهجير التي تعرض الفلسطينيون لها، وما زالوا، سياسة ديدنها تحويل الضحية إلى متَّهم وجانٍ، الضحية هي التي تجلب على نفسها القتل! آخر هذه الضحايا الفتى الغزيّ محمد أيوب ابن الخمسة عشر عاماً الذي قتل برصاص القناصة يوم الجمعة الماضي خلال مشاركته في «مسيرات العودة» الأسبوعية. لم يكن منسق الأممالمتحدة الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف الوحيد الذي وصف اعتبار إطلاق النار «على الأطفال بهذا العمر فضيحة»، إذ أصدر الاتحاد الأوروبي بدوره بياناً طالب فيه بالتحقيق الكامل في حادث قتل الفتى منتقداً إسرائيل على مواصلة إطلاق الرصاص الحي على مدنيين عزّل. وكالمتوقع، جاء رد الفعل الإسرائيلي غاضباً على البيان، فكرر أفيغدور ليبرمان اللازمة بأن قادة الفلسطينيين (هذه المرة قادة «حماس») هم «الجناة الوحيدون»، فيما اعتبر وزير الأمن الداخلي يغآل اردان بيان الاتحاد الأوروبي مبنياً على «حقائق مزورة»، مضيفاً أن إسرائيل هي التي تملك «الحقائق الصحيحة». في صراعها مع الفلسطينيين تحتكر إسرائيل الحقيقة لنفسها فقط. خلال احتفالها بعيدها السبعين، الأسبوع الماضي، عادت إسرائيل بإعلامها ومؤرخيها إلى روايتها عن حرب العام 1948: العرب هم الذين شرعوا في الحرب على اليهود غداة قرار التقسيم، العرب هم الذين خطّروا الوجود اليهودي في «أرض إسرائيل» ما اضطر اليهود للدفاع عن أنفسهم. الفلسطينيون هم الذين هربوا من أراضيهم وعليه لا تحق لهم العودة. هذه هي «الحقائق المعلنة» ولا يوجد سواها. هي الرواية الرسمية، على رغم أن مذكرات مؤسسي الدولة العبرية تشي بحقيقة مغايرة وتعكس حقيقة ما خطط له آباء الحركة الصهيونية وما جرى على أرض الواقع خلال الأعوام الأولى التي أعقبت قرار التقسيم وإعلان إقامة إسرائيل. جاء في السيرة الذاتية لمؤسس إسرائيل دافيد بن غوريون أنه كان عام 1937 على وشك قبول اقتراح بريطانيا إقامة الدولة اليهودية على مساحة أقل من التي تضمنّها قرار التقسيم بعد عشرة أعوام. أثار قبوله حنق ابنه فيبعث إليه برسالة غاضبة ليرد عليه الوالد بكلمات واضحة: «نقبل بأي جزء لنقيم الدولة، نقيم جيشاً واقتصاداً متينين وبواسطتهما نوسع حدودنا». وفور قرار التقسيم اختلف قادة الحركة الصهيونية حول حدود الدولة العتيدة فقرروا أن لا يشير «إعلان الاستقلال» إلى حدود الدولة، ما يتيح لهم التوسع على هواهم، وإلى اليوم ما زالت بلا حدود رسمية، ونتيجته أن إسرائيل تسيطر اليوم على 80 في المئة من فلسطين التاريخية، علماً أن قرار التقسيم منحها 55 في المئة «فقط» من مساحتها. الأمر ذاته بالنسبة للرواية حول قضية اللاجئين: يتعلم الطلاب اليهود بأن العصابات الصهيونية سحبت، قبل شهرين من إعلان «استقلال إسرائيل»، ما يعرف ب «الخطة د» التي تقضي بكل وضوح ب «ضم أراضٍ جديدة وتهجير الفلسطينيين» بدءاً من 12 مدينة مختلطة (يعيش فيها يهود وعرب)، وهو ما حصل وتم تهجير 300 ألف فلسطيني منها. لم تكتفِ إسرائيل بذلك، بل نفذت عشرات المجازر، بدءاً بمجزرة دير ياسين وعملت على أن يذاع نبأ هذه المجاز لحمل الفلسطينيين على الهرب فوراً كي لا يكون نصيبهم مماثلاً وهو ما حصل فعلاً فانضم 400 ألف آخرون إلى من سبقوهم. لم تتبدل الحال، ويبدو أنها لن تتبدل. الفلسطينيون هم الذين يجنون على أنفسهم الكوارث التي تحل بهم، بحسب إسرائيل، وليس الاحتلال المتواصل منذ أكثر من نصف عقد، ولا رصاص القناصة. الحجة جاهزة دائماً: الأطفال الذين يقعون ضحايا الرصاص الإسرائيلي هم «ضحايا قادتهم الذين جعلوا منهم دروعاً بشرية». لم يقترب أي غزيّ من السياج الحدودي الفاصل ولم يطلق أي منهم رصاصة على جيش الاحتلال، ومع ذلك دفع 37 فلسطينياً بحياتهم ثمناً على مذبح الكذبة الإسرائيلية. كما في الماضي تتهرب إسرائيل من مسؤولياتها. ليست هي المسؤولة عن النكبة ولا عن التهجير ولا عن النكسة، وكأني بها توشك على القول إن الفلسطينيين هم الذين استدعوها احتلال أراضيهم قبل نصف قرن.