مما لاشك فيه ان الفنان طه صبان، فنان كبير وأحد الرموز الفنية السعودية، ومن الرعيل الأول الذين تحملوا البدايات بصبر ومعاناة لإيمانهم بعبء الرسالة، وقدموا إنتاجهم الفني للتعبير عن ذواتهم وما صاحب ذلك من إخفاقات وإحباطات ونجاحات، كانت من العوامل الهامة على بلورة الشكل المعاصر للفن التشكيلي السعودي، ساعدت على اجتذاب الكثير من الفنانين الشباب، ومهدت الطريق للأجيال اللاحقة، وقد تحقق له الكثير من الشهرة يفتخر التشكيل السعودي به كفنان متميز من هذا التراب الطاهر. والمتابع لأعماله منذ خروجه من معطف الرضوي، مع نهاية التسعينيات الميلادية، محاولته التكيف مع الوضع ومؤثرات العرض والطلب والاندفاع نحو الاتجاهات الفنية السائدة وفي تجارب الحروفيات والبيئة المتنوعة راغباً في التوصل إلى شيء ما، وهذا الشعور في الواقع ليس إلا وجهاً آخر لحقيقة مادية للتعبير عما يناسبه وبين التقاليد الفنية الموروثة، وتحت هذه الظروف ثابر لخلق تقاليد فنية ثابتة للخروج بأسلوب يحمل هويته، فكانت مكةالمدينة التي ولد فيها وجدة التي عاش فيها كطرح ينطلق منه فنياً، ولكن وبعد هذا الإنتاج من الأعمال عن هذه المدينتين، لا أجد ما يوحي عنها في مظاهرها ومجتمعها لأن مواضيع البيوت القديمة والرواشين والدلة والخيام والنخل والبحر والمراكب والعُمَّة والغَبَانة والشيشة وجلسات المقاهي، ليست «تعريفاً» لأي إنتاج فني محلي، تعبر عن الأوضاع والجو والمناخ والحياة العامة في بيئتها ومعاناتها ومشاكلها، ولا استحضار تاريخياً لمكةوجدة، فهي تبقى عديمة الصلة لأي مضمون واتجاه فكري محدد يميزه، ما لم يُصاغ جيداً. لأن كل هذه المضامين والمفردات والأشكال مُشَاعة تجدها في الخليج وتركيا وإيران والدول التي دخلها الإسلام وامتدت إليها الحضارة الشرقية والعربية. ومن هذا السياق، فإن الاستعارة من هنا وهناك وتضمينها داخل العمل وإلباسها القالب المحلي البيئي، دون وعي، يفقدها الحس الوجداني الصادق للطرح المعبر عنه طريقة الأداء التي يتناسب الموضوع، فنلاحظ في هذه الأعمال، الألوان البهيجة والبيئة الرطيبة الناعمة، وأشكال الشخوصات والنماذج البشرية وملابسها وحليها وزينتها والبنطلونات والتنورات القصيرة والسراويل الفضفاضة، ليست مظهراً مكياً، هي أقرب إلى بيئة بلاد الشام بمناخها وألوانها الزاهية وبرودتها وانتعاشها ونماذج النساء وطقوسهم المختلفة عن هذه المنطقة بتقاليدها وموروثاتها. فعلى سبيل المثال الأعمال الهولندية كشف أصحابها عن جمال طبيعة بلادهم الخضراء والسماء الزرقاء ومساحات المياه الشاسعة ورائحة الزرائب، وفي ألوانهم الشقراء يتجسد بخار الغيم وموج البحر ورطوبة التربة الهولندية (بكلمة تعيش في هولندا) في فن الهولندية. فالفن المعاصر لكل دولة يقوم على خطوط ضخمة متوارثة، ففي «الهند» نرى في لوحات الرسامين المحدثين إشارات واضحة «للتراث الفني الهندي القديم»، وكذلك في الصين الحديث، وفي اليابان وفي إندونيسيا وفي السودان، ففي كل امة من الأمم ترى في معارضها أصالة وتميزاً، تشير إلى أن هذه «اللوحة» هندية أو تلك «صينية» أو مكسيكية أو هذه «إيطالية»، ولهذا فإن أعمال الصبان التي عُرضت في معرضه الرابع عشر، لا نجد هذه النكهة عن مكةوجدة، والتي قيل عنه انه (يغرف منها ليروي حقول أعماله برموز الهوية المكانية أوتوقا للمدينة والإنسان أو البيئة الشعبية بتعدديتها أو نماذج النساء التي تحمل في ملامحها خريطة المكان)، وهذا بسبب خلل في الصياغة والتمكن من الأدوات لإيجاد العلاقة المنطقية المقنعة والنكهة المميزة دون الغوص في المحاكاة والمباشرة. (ملاحظة في هذه المجموعة بدت الأشكال الآدمية وملابسها وإكسسواراتها مباشرة وحركاتها واضحة بالأسلوب التأثيري التعبيري على شاكلة الوحشيين). وكان الأفضل عدم جغرفة الطرح في محيط المخزون والموروث وموضوعاتها المعقدة، ومما زاد الأمر تشويشاً، القراءة الفنية التي أحاطتها، تنقصها الدقة وارتباطها بالمفاهيم والمصطلحات والتصنيفات المدرسية عسيرة الهضم، تستمد مفرداتها من النص الغربي المترجم، ومحاولة فرضها عنوة على العمل الفني وقضاياه المعقدة لا تتفق محتوى العمل الفني، وهي من نوع القراءة الانطباعية التي ترتكز على إطلاق العنان للخيالات والانفعالات والإعجاب أثناء مشاهدة العمل، دون النظر إلى العمل الفني وتحليله بعين فاحصة مع مفرداته وإدراك معانيها وتفسيراتها، والمبالغة في المدح والسبر في العبارات الفلسفية واشتقاق مصطلحات وعبارات معقدة يناقض الإنتاج الفني، يساهم في عدم وضوح الرؤية وتكثيف الضبابية ويشكل خطورة على جمهور الفن والمتلقي ويشل قدرتهم على الاستيعاب الفني وينعكس سلباً على فكر وأداء الفنان نفسه ويعيق تقدمه وتطوره، فعملية القراءة يجب أن تتم بمعزل عن التصنيف أو التمدرس وتكون تربوية موضوعية يوضح ماهية العمل الفني ودراسة ظروفه مبرزاً الإيجابيات والسلبيات يتيح للفنان الفرصة للإفادة من ذلك في مشوار حياته الفنية، لأن طراز الفنان وحياته له فرادته وطلاقته، والجانب النفسي والعوامل الاجتماعية والمادية تلعب دورها في تسييس وجدانه لا يدركها سواه. * تشكيلي سعودي.