يستطيع الكثيرون في دول العالم القول إنهم انتصروا على الإرهاب و «القاعدة» وهم يستذكرون في الغد «انتصار» القاعدة الكبير في 11 أيلول (سبتمبر)، ذلك أنهم فككوا بنية «القاعدة» التحتية، من خلايا ومخازن أسلحة. لم تبق لها أرض آمنة تخطط منها للانطلاق في عمليات حول العالم، بل حتى نجحوا في أصعب مهمة وهي اختراقها فبات لديهم عيون داخل المنظمة الشديدة السرية والولاء. المقياس في حساب هذا الانتصار هو عدد العمليات التي نجحت «القاعدة» في أن تنفذها بالمقارنة مع سنوات الحرب الأولى. لقد انخفض العدد بالفعل إذا استثنينا ما يحصل في العراق وأفغانستان، فهناك حالة حرب عصابات أكثر منها تلك العمليات التقليدية المخيفة ل «القاعدة» التي تغدر بالمدنيين على حين غرة في محطة قطار أو مجمع سكني. المقياس الثاني هو قدرتها على التجنيد، فإن كانت لا تزال تجذب أنصاراً جدداً فهي إذاً نشطة. ولكن هل هو انتصار كامل؟ بالطبع لا. لن ننتصر ما دام فكر «القاعدة» حياً. أتخيل مجموعة من الخبراء المتخصصين بالإرهاب مجتمعين في مكان ما، أمامهم خريطة للعالم عنوانها «أين تنشط القاعدة فكرياً وأين انحسرت؟» ستتوزع الدول على ثلاثة ألوان، حمراء هي الدول التي ترتع فيها «القاعدة» فكراً وعملاً، وخضراء هي الدول التي انحسرت فيها، وإذا مزجنا اللونين تكون النتيجة لوناً «بنيّاً» للدول التي انحسرت فيها «القاعدة» أمنياً وعسكرياً ولكن ما زالت موجودة فكراً. سينشرون على الخريطة أعلاماً سوداء وهي لتجمعات مقلقة يحتمل أن تنشط فيها «القاعدة» مثل بعض المراكز الإسلامية في أوروبا أو حيث توجد تنظيمات ل «القاعدة» أو متعاطفة معها لكنها منعزلة. «الربيع العربي» ساهم في إلغاء اختيار «القاعدة» في كثير من البلدان، بل لم تكن ل «القاعدة» مشاركة في «فتنة» التحول والتي كانت عنيفة أو فوضوية، وهي البيئة المناسبة ل «القاعدة». ليبيا كانت الأنموذج الأفضل، حالة حرب كاملة وثورة مسلحة طوال ستة أشهر، ولم نرَ أي وجود ل «القاعدة» أو حتى صورة ل «بن لادن». حتى من حارب يوماً إلى جواره تخلى عن «قاعدته»، وأعلن بوضوح خلافه معها وأنه يريد دولة «الحرية والمساواة والعدالة»، وأقصد هنا بوضوح عبدالحكيم بلحاج زعيم ثوار طرابلس. لم نرَ أو نسمع بعملية انتحارية واحدة، وهي من سمات فكر «القاعدة»، ولم نرَ السمة الثانية التي تختص بها وهي التكفير، على رغم سهولة تكفير القذافي، فللرجل هرطقته التي ترقى إلى التجديف في الدين. لا تكفير ولا عمليات انتحارية، إذاً لا وجود ل «القاعدة» في ليبيا، فتستحق بذلك اللون الأخضر بجدارة، ولكن، لماذا؟ مصر هي الأخرى، رفعت شتى الرايات والشعارات خلال ثورتها، ولم ترفع راية ل «القاعدة»، بل إنها وليبيا تجتمعان في أن حركتيهما الإسلاميتين المتطرفتين أعلنتا حتى قبل الثورة تخليهما عن سمات «القاعدة» وهي التكفير والعمل الانتحاري والخروج المسلح على الحاكم. فلماذا نجت مصر وهي من احتضن الفكر المولِّد ل «القاعدة»؟ فأصل «العقيدة القاعدية» إذا صح التعبير هو فقه الجماعة الإسلامية وحركة الجهاد المصرية التي أعلنت أن المجتمع جاهلي، وأن الدولة ومؤسساتها كافرة، وأن من لم يكفّر الكافر فهو منه، ولا عودة إلى الإسلام إلا بعد جهاد تتميز فيه الصفوف... لماذا نجت مصر من فكر «القاعدة» ولفَظَته؟ سورية، وهي تموج الآن بحال تحول وفوضى وتخلخل لدولة أمنية مخيفة، هي الأخرى لم تبرز فيها «القاعدة» على رغم أن الفرصة مواتية لها، بل إن النظام يتمنى لو تظهر «القاعدة» فيبرر بذلك عنفه الأعمى ضد شعبه وسياسته الأمنية التي باتت احتلالاً. لقد خرج أهم منظري «القاعدة» من سورية وهو أبو مصعب السوري صاحب نظرية الطائفة المنصورة، وهي مرحلة متطرفة من الفكر «القاعدي» تقوم على أن الجماعة القائمة بالجهاد هي الجماعة الشرعية وأميرها هو أمير المؤمنين وإن قل عددها، وأن الدولة القائمة والمجتمع هم كفرة مستباحو الدم والمال والعرض، وقد طبقت هذه النظرية الهالكة المهلكة خلال العشرية السوداء الدامية في الجزائر. الأردن والمغرب والجزائر يمكن أن تلوينها بالأخضر أيضاً مع أعلام سوداء تشير إلى وجود جماعات مرتبطة ب «القاعدة» فيها، ومستند من يقول بذلك من الخبراء المجتمعين هو عمليات العنف التي حصلت أخيراً في المغرب والجزائر وإن كانت منعزلة، أما الأردن فيكفي وجود الأب الروحي ل «القاعدة» (أبو محمد المقدسي) في السجن فيها، مصرّاً معانداً يرفض التخلي عن أفكاره التي أشعلت ناراً ولا تزال. أما اليمن فهو دولة حائرة، ليس ل «القاعدة» دور في الحراك الشعبي فيها ضد النظام لكنها لا تزال نشطة ولها أنصار، ربما هي خضراء بعلم أسود كبير. أما الدول التي لا تزال «القاعدة» مسيطرة فيها على العقل المسلم الغاضب والتي سيكون لونها أحمر على الخريطة، فهي باكستان وأفغانستان والعراق. هل السبب هو الوجود الأميركي في الدول الثلاث أم خلفية فكرية؟ سنّة العراق مثلاً يشبهون في خلفيتهم الفكرية سنة سورية، فهل هو الاحتلال الأميركي والعلو الشيعي اللذان دفعاهم إلى حضن «القاعدة»؟ وما الذي حمى الأفغان خلال سنوات جهادهم ضد الروس من الولوغ في تكفير عامة الشعب بل حتى الجيش، واقتصر تكفيرهم على الحكومة الشيوعية ورموزها؟ وكذلك في باكستان التي تشترك مع الأفغان في المدارس الدينية نفسها وكذلك الخلفية المذهبية الحنفية الدوبندية المتشددة والتي كانت تختصم مع الحكومات المتعاقبة وتطالب دوماً بشتى وسائل الضغط المشروعة، كالتظاهر والاعتصامات من أجل تطبيق الشريعة، لكنها لم تنحدر للعمل الانتحاري والخروج المسلح على الدولة والتكفير إلا الآن؟ فلماذا؟ السؤال الأصعب والأهم هو ما يخص بلادي، المملكة العربية السعودية، هل انحسر عنها فكر «القاعدة» فتصبح خضراء أم أنها بنية اللون؟ نجحنا أمنياً ولكن لم ننجح بعد فكرياً. هل «القاعدة» خافتة نتيجة الضغط الأمني عليها وستنتعش مجدداً لو خف عنها الضغط؟ هل حدة اليمين المتشدد الرافض للعصرنة والانفتاح فكر «قاعدي» من غير سلاح؟ نجحنا في مناصحة الكثيرين، ولكن لا يزال غيرهم معانداً رافضاً يروى أنه على حق. بيننا من يرفض العنف ولكن بمنطق «اكره الكافر ولكن لا تقتله». هل هذه الحقائق تضعنا في ال «بنّي»؟ إنه مبحث يستحق التفكر، فنحن لا نريد فقط انتصاراً أمنياً على «القاعدة» وإنما نريد انتصاراً يقتلع جذورها تماماً حماية للإسلام قبل أي شيء آخر. * كاتب سعودي