مرّ خبر إطلاق سراح «أبو مصعب السوري» من سجنه في حلب من غير أن يلفت الاهتمام، مثلما كان خبر اعتقاله في باكستان قبل بضعة أعوام على يد الأميركيين وتسليمه للسوريين، لمَ فعل الأميركيون ذلك؟ و «أبو مصعب» هو من هو في «القاعدة» وفكر التكفير الذي تفوق فيه حتى على الخوارج. انه أيضاً كنز من المعلومات، ويكتنف شخصيته كثير من الغموض. قبل قليل اتصلت بي صحافية أميركية تعمل على كتاب تتساءل عما يمكن أن أعرفه عن كويتييَّن في غوانتانامو لن يحاكما ولن يطلق سراحهما أيضاً، أي أنهما معتقلان «بلا إفراج... ولا محاكمة». لماذا؟ كم هي عميقة غامضة أسرار «القاعدة»؟ بعد إطلاق سراح «أبو مصعب» الذي لا نعرف أين توجه في سورية المضطربة، وقعت تفجيرات غامضة في حلب، ثم أعلن الأميركيون أنهم يرون بصمات «القاعدة» هناك، وتحديداً «قاعدة العراق»، الذين لم يتأخروا هذه المرة في إصدار بيان مفصل لا يتبنى العملية بوضوح، ولكنه مؤيد «للجهاد في سورية»، هو الأكثر صدقية من كل الاتهامات السخيفة التي حاول النظام عبرها «استدعاء» «القاعدة» إلى المشهد السوري منذ بداية الأحداث، وأشير هنا إلى تفجيرات قيل إنها انتحارية استهدفت مقرات أمنية بالعاصمة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي واتهم النظام فوراً «القاعدة» بأنها خلفها. بيان «قاعدة العراق» الأخير بدا مقنعاً، غير ركيك ومفضوح من صنع أجهزة النظام، كشف بالتفصيل عن هجرة أنصار «القاعدة» من العراق إلى سورية. معلومات أخرى تترى عن استنفار في منطقة الأنبار العراقية تحديداً المتاخمة لسورية، لجمع التبرعات والأدوية بل حتى السلاح لنصرة السوريين. ليس بالضرورة أن «القاعدة» خلف هذا الاستنفار، بل الغالب أنه نفرة طبيعية من سنّة العراق تجاه إخوانهم في سورية، خصوصاً لما بينهم من تداخل عشائري أيضاً، وشراكة في «المظلمة» الجيوسياسية التي غيرت واقع المنطقة وواقعهم بالتمدد الإيراني المذهبي، ورغبتهم في جيرة نظام يعيد التوازن إلى عالمهم، ويعزز موقفهم في مواجهة النفوذ الشيعي المتمدد. ولكن كل ما سبق بيئة ممتازة ل «القاعدة» نشاطاً وتجنيداً، لذلك على جيران سورية الذين يخططون ويقلبون أحوال التدخل والتغيير هناك، أن يضيفوا «احتمال» دخول لاعب جديد «معهم» هو «القاعدة» وكلما تأخروا سيتحول الاحتمال إلى حقيقة، وستصبح «القاعدة» طرفاً مهماً في الأزمة السورية، وإن لم تكن مرحباً بها ولن تشارك بالطبع في اجتماعات «مجموعة أصدقاء سورية» المقبلة. هذه الحقيقة المؤلمة مدعاة للتحرك السريع وقطف التفاحة السورية قبل أن تتعفن، فتصرفات النظام وأسلوب معالجته للأزمة كما نرى في قصفه لحمص وغيرها يفتقدان المسؤولية الوطنية. النظام السوري لا يمكن أن يقبل بمبادرة من الجامعة العربية أو حتى من الاتحاد الروسي. كل ما يحصل تضييع للوقت. الحرية تقتله، وكل المبادرات المطروحة عليه تقوم على مبدأ «الحرية» والحق في الاختيار، وهو ما لا يحتمله. إنه يجيد القوة، والقتل وتفتيت المجتمع... وكذلك «القاعدة». لنعد إلى «أبو مصعب السوري». إنه أحد منظري «القاعدة»، بل أزعم أنه و «أبو قتادة الفلسطيني» و «أبو محمد المقدسي» من صنعوا «القاعدة» وكسوها لحماً عندما طوروا فكرها بعدما كانت مجرد «قاعدة معلومات» للجهاديين. ليسوا هم من التحق بأسامة بن لادن، بل إن الأخير هو من التحق بهم. وتلك قصة طويلة، فكيف يعتقل رجل كهذا ويسلم للسوريين، ولمَ يطلق النظام سراحه الآن؟ أعرف الرجل جيداً، وتحاورت معه، وكتبت عنه من قبل. إنه متطرف بلا حدود. لقد كان المنظر للإرهاب في الجزائر، والمفتي بالقتل واستباحة الحرمات. كانت عنده الجرأة على الفتوى، أن قسم الشعب الجزائري المسلم الديانة بالكامل، والمالكي المذهب بالغالب، بين كافر ومسلم، إلى طائفة منصورة هي الآمنة في مالها ودمها وعرضها، وإن كان تعدادها آلافاً قليلة، ثم وزع بقية الجزائريين بين كافر ومحارب ومتواطئ ومن هو معذور بجهل، ومن بلغته الرسالة فأبى فدخل في دائرة الكفر. كان يصوغ هذه «الخرابيط» في أشرطة كاسيت ونشرة أسبوعية توزع على أبواب المساجد في لندن ومنها إلى الجزائر! كان مفتي القتل والدم بامتياز. ما كان يحصل في التسعينات غريب جداً، وتسامح الغرب مع هذا النمو لفكر «القاعدة» وقتها مدعاة للريبة، ليست ريبتي وحدي، بل تعجب منه زعيم حركة النهضة التونسي الشيخ راشد الغنوشي، فقال لي أثناء إقامته لاجئاً في لندن: «لو أدليت بتصريح لصحيفة، أجد موظفاً من الاستخبارات البريطانية يزورني بعد أيام يسألني عنه، أما هؤلاء - يقصد المتطرفين - فينشطون بحرية!» نجح «أبو مصعب» وآخرون في إشعال فتنة تكفير في بلد كله من المسلمين، فما هو فاعل في سورية؟ فسيفساء التسامح الإسلامي التي حافظت على مذاهب مسيحية ما كان لها لتنجو لو تغلبت روما الكاثوليكية عليها وحكمتها لمئتي عام مثلاً. في سورية حيث كل المذاهب وكل الأديان، تنوع حيوي حواه الانتماء لوطن واحد، ولم يعد خافياً أن النظام حاول أن يضخ بخطاب طائفي طوال الانتفاضة ولم يفلح، فهل هُرِّبَ «أبو مصعب» ليعلن جهاداً ويجلب الأنصار إلى سورية، ويكرر فعلته في الجزائر؟ في عالم «القاعدة» والنظام الأمني السوري كل شيء يمكن تصديقه. النظام مستعد أن يبقى ولو على مساحة ضيقة من سورية. إذاً هو بحاجة إلى تفتيتها، وما من أحد قادر على ذلك أفضل من «القاعدة». ربما أبالغ، ولكن عندما تبلغ الروح الحلقوم، فإن النظام مستعد لتجربة كل شيء وأي شيء، «بما في ذلك تجزئة المجزأ، وتقسيم المقسم». تذكروا أنه نظام طائفي ابتداء و «الوطن» ليس من مفردات الطائفة. * كاتب سعودي [email protected] twitter @jkhashoggi