بعد عقود متواصلة من معايشة الحروب وقسوة مؤسسات الحكم، أصبح العنف السلوكي واللفظي والفعلي مادة العراقيين الأثيرة، إلى حدّ أن أطفالهم في عطلة عيد الفطر الأخيرة استخدموا أسلحة تقارب الحقيقية فأصيب وفق مصادر طبية في «مستشفى ابن الهيثم» ببغداد والمختص بطب العيون، نحو خمسين طفلاً، جروح خمسة منهم بليغة نتيجة اللعب ببنادق تطلق كرات رصاصية صغيرة تتشظى بعد الإطلاق. وبما أن الشيء بالشيء يذكر انتهى في اليوم الأول للعيد بث حلقات مسلسل درامي مثير للجدل كانت تعرضه قناة «البغدادية» التي تتخذ من مصر مقراً لها، طوال رمضان، ويحمل عنوانه لقباً ارتبط بحياة العراقيين عميقاً، وتحديداً في سبعينات القرن الماضي، هو «أبو طبر» الذي كان كناية عن سفاح نفّذ سلسلة من عمليات القتل التي روّعت المواطنين وتحديداً في بغداد عام 1973 عبر استخدام فأس حادة يسميها العراقيون «طبر». صحيح أن الذاكرة الشعبية تحفظ للحدث ارتباطه بمخطط جهنمي، عملت على تنفيذه سلطات النظام العراقي السابق، عبر إشاعة الترويع والهلع فيما كانت هي تصفي خصومها السياسيين على مهل وبهدوء، غير أن المسلسل الذي كتبه أشهر كاتب دراما تلفزيوني في العراق اليوم، حامد المالكي، حاول وإن عبر الحبكة الدرامية، إدانة العنف ومصادره وحال الترويع النفسي والسياسي التي خلقتها سلسلة جرائم القتل التي نفذها «أبو طبر»، لكن المسلسل، وربما من دون أن يدري القائمون عليه، وقع في المحظور ذاته، فبدا تكريساً للعنف في شهر تميل النفوس إلى استعادات تاريخية تحض على الإيمان، وتعمل على تهدئة الأرواح وتعطيرها بشذى فكري وإنساني، لا أن يُقدَّم عمل هو في حقيقته نشيد دموي بامتياز، غير أن لفرط الدموية التي استغرقت فيها الوقائع العراقية لم تشكل المراجعات النقدية للمسلسل أي مأخذ على عناصر الاستغراق في العنف وتأصيله كرسالة، وإن جاءت في سياق درامي، عن حدث دموي بامتياز. كأن العراقيين لم يكفهم، وبخاصة في السنوات الأخيرة حشود من «أبو طبر» أمعنت فيهم تقتيلاً وترويعاً وذبحاً، حتى جاء المسلسل الذي أخرجه سامي الجنادي، ليذكرهم بأن مواطناً منهم كان سبق «ذبّاحي القاعدة» بعقود، وكأن العائلات العراقية لم يكفها الواقع بصفته مصدراً للعنف الرهيب، حتى تتفرج على فيلم مرعب طويل بنحو 30 ساعة. قد تكون الدراما العراقية ربحت في الأداء اللافت لمعظم من أدى أدوار الشخصيات الرئيسة في المسلسل، وتحديداً الفنان كاظم القريشي (أبو طبر)، ولكنها خسرت كثيراً في الجانب الإنساني، لجهة أن يصبح العنف إيقاعاً يومياً ورسائل تأتي أيضاً من التاريخ القريب، رسالة موقعة بفأس يسيل الدم من حافاتها. طبعا، لا يمكن أحداً أن يوافق على فكرة تفرض عليك أن تبدو دموياً جداً حتى تكون أميناً لوقائع عنيفة ومروعة، وليس بالضرورة أن تحوّل المشاهد إلى ساحات حرب مليئة بأشلاء القتلى كي تكون أميناً في إنتاج عمل درامي عن الحرب، هنا لنأخذ من فيلم «هير» مثالاً، فهو عن القسوة التي تعنيها حرب، مثل حرب فيتنام، لكن من دون قذائف ولا جبهات قتال. لقد كان من السذاجة في المسلسل مع تقدم حلقاته عدم الانتباه إلى نوع من التضامن «النفسي» على الأقل، مع صاحب الجرائم المروعة، وهو ما قصده الكاتب للإيحاء بأن القاتل لم يكن غير «أداة تنفيذ لقتل سياسي» وهو أمر غير مستبعد لجهة التاريخ الدموي للنظام السابق، لكن أي تبرير أو تعاطف ومن أي نوع مع قاتل كان «يفلسف» جرائمه نفسياً وسياسياً وفكرياً، يبدو أمراً خطيراً يقع في المحظورات، فقد فات المؤلف المالكي الذي راح حتى الدقيقة الأخيرة يحيط القاتل بنوع من الهالة الأسطورية (لم يمت على رغم تنفيذ الإعدام به ثلاث مرات) مفعول مثل هذا الأمر على الجمهور، بل إن الموسيقى وتحديداً في الحلقة الأخيرة، انسجمت مع هذا المؤشر في إضفاء هالة الغموض والإعجاب الضمني بل «القدسي» أيضاً، فهي - التي وضعها كريم هميم - اعتمدت عمل المؤلف البريطاني بيتر غبريال المعنون «عاطفة» الذي وضعه كموسيقى تصويرية لفيلم المخرج مارتن سكورسيزي «الإغواء الأخير للسيد المسيح»، وعلى مدى نحو ربع ساعة هي مشاهد الإعدام أو تتصل به، أعاد المسلسل مقاطع كثيرة من عمل موسيقي جميل لا علاقة لها بمجرم مستغرق في وحشيته، حتى وإن كان ينفذ خطة سياسية، هي ذاتها الأنغام التي كانت ترافق صلب السيد المسيح عليه السلام في الفيلم! جملة من الرسائل الخطأ في مضامينها، وفي توقيتها، مرّت في مسلسل «أبو طبر» إلى درجة أن المشاهد غير العراقي يتساءل بعد أن ينهي متابعة الحلقات بفيض دمويتها، وهو العارف أيضاً بوقائع العراق الدموية في السنوات الثماني الماضية، سيتساءل وهو على حق، «لماذا يغضب العراقيون حين يقول لهم أحد ما إنكم عنيفون»؟ طالما أنهم حتى في محاولتهم الهروب، عبر العمل الدرامي الفني، من وقائعهم العنيفة، يختارون قصة مستغرقة في العنف للفرجة عليها.