تضطلع صور الحرب، في الولاياتالمتحدة والعراق، الى اليوم بدور لا يستهان به. ويدل الدور هذا على دوام جروح ورضات ناجمة عن نزاعات الماضي والحاضر، ولا تزال تؤثر في ذاكرة البلدين. واضطرت هذه الحال الرئيس الأميركي، في وقت قريب، الى حجب صور تعود الى أبو غريب، لم تنشر من قبل، وعلى شاكلتها. وهي تخالف ما ذهب إليه الرئيس أوباما، في خطبة القاهرة (حزيران/ يونيو 2009)، حين تكلم على «التشارك في الإنسانية». وصور أبو غريب خلفت في سياسة الذاكرة أثراً لم يندمل، وتحولت «أيقونات مقرفة يجمع الناس من كل المشارب، بينها وبين الحرب في العراق الى قيام الساعة»، على قول سوزان سونتاغ. فهي أقوى رمز لحقبة تسعى الولاياتالمتحدة جهدها في طيها سياسياً وأخلاقياً. وتناولت حرب العراق أشرطة سينمائية أميركية توسلت، على هذا القدر أو ذاك، رسوم حرب فييتنام ومثالاتها المرئية. وعالجت السينما الأميركية حرب فييتنام على نحو لم تبلغه سينما بلد آخر خاض حرباً استعمارية. فليس في السينما الفرنسية أعمال تضاهي، من بعيد، «الرؤيا الآن» لفرنسيس فورد كوبولا (1979)، أو «بلاتون» لأوليفر ستون (1986)، أو «السترة المعدنية التامة» لستانلي كوبريك (1987). وهذا قرينة على الرابطة الوثيقة التي تشد السينما والحرب والذاكرة في الولاياتالمتحدة. وهذه الرابطة ركن فهم مشترك للحرب وانتهاكاتها. ومن الانتهاكات التي تناولتها الأفلام الأميركية تلك التي ارتكبها الجنود في حق المدنيين العراقيين، وتطرق إليها بول هاجيس في شريطه «في وادي إلاه» (2007)، وبريان دوبالما في «مراقَب» (2007)، وإيليوت موريس في «إجراء روتيني» (2008). ومنها الذكريات الراعفة التي تقض نوم المحاربين القدامى حين عودتهم الى بلادهم، ورواها جايمس ستروز في «رَحَلت غرايس» (2008)، وكيمبرلي بيرس في «الحد من الخسارة» (2008)، وأورين أوفيرمان في «الساعي» (2009). وتناولت أفلام أخرى مناورات السياسة الأميركية وأكاذيبها وواجب العدالة الذي يدعو، الى فضحها وإدانتها، على شاكلة شريط روبرت ريدفورد «أسود في ثياب حملان» (2007)، وشريط ريدلي سكوت «جسد الأكاذيب» (2008). وكان على الأعمال السينمائية الجديدة استبدال أدغال جنوب آسيا الشرقي بأدغال المدن العراقية. ففي «في وادي إلاه» يعمد بول هاجيس الى استعمال الصور الفوتوغرافية وأشرطة الفيديو المرقمنة التي صورها جهاز هاتف نقال (خلوي) يعود الى جندي قتيل، وكان هذا أرسلها الى والده، وعهد بها الوالد الى تقني ظهَّرها صورة بعد صورة. ويفحص الأب، وهو من قدامى الجنود الأميركيين بفييتنام، الصور على حاسوبه، ويكتشف مشاهد التعذيب والعنف التي ضلع فيها ابنه في العراق. ويبلغ خبر مقتل الابن الوالد الأميركي. ويحمل مقتل الابن الوالد على الاضطلاع بعمل حداد يستبق عمل الذاكرة الذي ينتظر الأمة الأميركية كلها. ويصور المشهد الأخير الوالد وهو يرفع العلم الأميركي مقلوباً أو منكساً. وينجم عن جمع نوى الصور والبطاقات الرقمية نسيج متماسك تندرج فيه الصور الجارحة وتتسلل إليه. فيستعير الفيلم رسوم القص التاريخي. ويضطلع السيناريو بدور «بنية انتقالية» تتوسط الذاكرة الفردية المجروحة والمرضوضة وذاكرة الحرب على نحو ما تثبتها الجماعة الوطنية. ويحاكي «في وادي إلاه»، وتوليفه الصور الرقمية، دورَ «البنية الانتقالية» الموكولة الى الذاكرتين. والبعد «التاريخي» الذي يضطلع به التوليف يسوغه الفهم الذي يحظى به على نطاق المجتمع كله، وشيوع الإلمام به وقبول مصطلحه. فالتعذيب في أبو غريب، والاشتباكات الدامية في الفلوجة، في 2004، تبعث ما هو معروف وشائع عن الحرب السابقة بفييتنام. والأشرطة السينمائية الثلاثة البارزة التي تصدت لرواية حرب العراق، ووقعها في الذاكرة الأميركية، لم تلق رواجاً. وقد يكون مردّ الأمر الى رواحها مباشرة الى «بيت القصيد»، وإلحاحها في وصل حرب العراق بحرب فييتنام، بينما لا تزال القوات الأميركية ترابط في العراق. وتميل معالجة الأعمال السينمائية للحوادث والوقائع العراقية الى التشاؤم والقسوة. وعمل بريان دوبالما، وهو من قدامى هوليوود وفييتنام معاً («مصابو الحرب»، 1989) قرينة على تناثر مخيلة الحرب وتشظيها. ويدور السيناريو على واقعة معروفة هي اغتصاب أربعة جنود أميركيين الفتاة العراقية عبير قاسم حمزة، في 2006. ويتوسل دوبالما الى الرواية بأجزاء وصيغ متقطعة ومتفرقة ومتخيلة. ويختار من المواد الإعلامية المتيسرة، من أشرطة فيديو صورها الجنود وحملوها على يوتيوب أو من مختارات وثائقية وأشرطة أجهزة مراقبة وصور بثتها حركات المقاومة أو حركات السلم الأميركية، يختار منتخبات ومقتطفات يولفها، ويدعو الى إعمال النظر في عمل التوليف والانتخاب والقطع والوصل. وينبه، من ناحية أخرى، الى تحلل الصور في خضم إعلامي متلاطم. فجريمة الحرب، على شاكلة الاغتصاب، تحيلها الشبكة العنكبوتية الى وثيقة قد يراها المشاهد على نحو ما يرى شريطاً إباحياً. ويقود التنبيه الى تقرير تواطؤ مضمر بين مرتكب جريمة الحرب، وبين مشاهد الجريمة ومصورها بواسطة آلة تصوير فيديو أو جهاز هاتف نقال ومشاهد الصور و «مستهلكها» على شاشة تلفزيونه أو حاسوبه. ويندد دوبالما بتواطؤ آلة الحرب وآلة الإعلام معاً، ويمثل عليه دور الجندي سالازار، مخرج فيديو يوميات الحرب وشاهد الاغتصاب الفاعل والمواطن المتوسط ومنتج الشريط ومستهلكه، في آن، والحق أن ثقافة (الإعلام) المرئي الجماهيرية في عصر الإنترنت تدمج في كتلة واحدة عوامل الفضيحة والفرجة (البصبصة) والاستعراض. ولا تنفك اليوم «الحادثة المسخ»، وهي مثال حادثة الحرب وانتهاكاتها، من عرضها المصور وبثها في (الإعلام) المرئي. ويترتب على التلازم هذا تضييق الشقة تضييقاً داهماً ودرامياً بين حاضر الحرب وبين تدبير أو سياسة ذاكرة حوادث الحرب هذه. وعليه، فسيرورة تصدي المجتمعات لجروح الحرب أمست جزءاً لا يتجزأ من مسير الحرب وسياقها. فيعمد السياسيون والقادة العسكريون الى استباق الحوادث وتخيل صيغ المصالحة المرجوة أو المزمعة. وفي ختام «في وادي إلاه»، على ما مر، يُحمل عمل الحداد الوطني على الحل الذي ينبغي أن تفضي الحرب إليه، بعد إدانتها الأخلاقية. وأفلام حرب العراق الأميركية، وسيناريواتها كتبت في أثناء حملة أوباما الانتخابية، تتوقع مجمعة انتقال العراق من «دولة فاشلة» الى «دولة هشة»، وربما الى «ديموقراطية ناشئة». وهي تقترح على السياسة الأميركية المقبلة، في 2009، مساندة الانتقال المأمول. وكانت سينما هوليوود، في 1996 («بطولة تحت النيران»، لديفيد أو راسِّل) و1999 («ثلاثة ملوك» لإدوارد زويك)، تابعت البيت الأبيض على مزاعمه في عراق يقتصر على ميدان حرب غير مأهول، وعلى مخازن سلاح تنفجر حين إصابتها بقذائف دقيقة التصويب، ولا ترتب أضراراً جانبية في السكان. وفضحت صور أبو غريب وهم حرب من غير ضحايا ولا تعذيب ولا قتلى. وعادت ذاكرة العراقيين الى الماضي البعثي القريب واللصيق، وقارنت بين قمعه الدامي وبين أعمال الجيش الأميركي في المعتقلين والمدنيين العراقيين. فندد سامر مشعل، صحافي «الصباح» بسياسة الخوف التي تنتهجها الولاياتالمتحدة، وأحيا ذكرى «أبو طبر» الذي أشاع حزب البعث العربي الاشتراكي خبره وطيفه غداة استيلاء الحزب على الحكم، في أواخر الستينات وأوائل السبعينات. ودعا شاكر الأنباري («ثقافة ضد العنف، إطلالة على عراق ما بعد الحرب»، 2007) الفنانين والسينمائيين العراقيين الى فحص سنوات عهد البعث الأولى ودراستها في ضوء العنف الذي انفجر في عراق ما بعد 2003. وفي 2008 رسم اياد جهاد «عودات أبو طبر» شريطاً متحركاً. وصورت الفضائية العراقية «البغدادية» مسلسلاً يتناول أبو طبر. وتناول المخرج الكردي بهمن غبدي، في «السلاحف تطير كذلك» (2005) «أنفال» صدام حسين وجروحها في ذاكرة المدنيين. فالعراقيون يرون المصالحة الوطنية عملاً تمهد الطريق إليه تسمية محال الذاكرة (أبو غريب) والأساطير المشتركة (أبو طبر)، على رغم أن مثل هذا العمل يؤجج الجروح ربما، ويبعث خلافات. * ناقد سينمائي، عن «إسبري» الفرنسية، 12/2009، إعداد وضاح شرارة