بعد حوالى ستة أشهر على انطلاقة الحراك الشعبي السوري، تبدو الأمور كما لو أنها تراوح مكانها في ما يشبه لعبة الكر والفر أو الاستنزاف المتبادل بين السلطة وقطاعات عريضة من المجتمع. خلال الأشهر الستة هذه تضافرت عوامل عدة، داخلية وإقليمية ودولية، وفي مقدمها اعتماد النظام بالدرجة الأولى على المعالجة «الأمنية» لانتفاضة الشارع، وقد ساهمت هذه العوامل في تثبيت الوضع السوري في صورة أزمة بنيوية مرشحة للاستدامة. فالصورة هذه تكاد تتلخص في مشهد المتظاهرين الذين يواصلون يومياً احتجاجاتهم في غير مدينة سورية ويدفعون ثمناً باهظاً لكسر حاجز الخوف، قتلاً واعتقالاً وترهيباً، فيما يقابل النظام ذلك بمحاولات يائسة لصناعة الصيف والشتاء تحت السقف الواحد خوفاً من أن يفقد زمام المبادرة والتحكم بالوضع عموماً، بما في ذلك الإصلاحات التي يزعم الشروع بها. مع ذلك يمكن القول إن الوضع لا يزال بعيداً عن توفير تصور لاحتمالات الحسم في هذا الاتجاه أو ذاك. فما نراه مصحوباً بحرب إعلامية ودعوية بين المعارضة والنظام ومناصريهما في الداخل وفي المحيط الإقليمي والدولي لا يكفي حتى الآن للحديث الجدي عن تصدّع في بنية النظام وعن ارتسام أفق مشترك وجامع لأطياف المعارضة. كذلك لم يظهر حتى الآن ما يدلّ على خروج المدينتين الكبيرتين دمشق وحلب على النظام علماً بأنهما تشكلان مجتمعتين نصف سورية تقريباً من الناحيتين الاقتصادية والديموغرافية. وقد لا يكون أمراً تفصيلياً أن نعرف إذا كان الخوف العاري الناجم عن تشديد القبضة الأمنية وإحكامها على المدينتين ومحيطهما المباشر هو الذي يفسر قلة حراكهما، أو إذا كان خوفاً من نوع مختلف، أي مشوباً بحماية المصالح والحفاظ عليها معطوفاً على نزوع الطبقات الوسطى إلى التريث وتفضيل الاستقرار على الاضطراب والفتنة وفق ثقافة فقهية متوارثة ومتجذرة في سلوك فئات لا تقتصر على «الخاصة» والأعيان ونخبة أصحاب المصالح والملاكين. قصارى القول إن القاعدة الاجتماعية للنظام السوري، سواء كانت تجمعاً لأقليات متفاوتة الحجم والمكانة أو مزيجاً من طوائف خائفة ومن فئات اجتماعية مستفيدة وطبقة مدينية أو حديثة العهد بنمط الحياة المدينية المتولد من تحولات اجتماعية في الأرياف والمدن التقليدية، هذه القاعدة لا تزال تحتفظ، على ما يبدو، ولاعتبارات مختلفة، بقدر من التماسك يبعد عنها شبهة التفسخ والتشظي. لا حاجة ربما للتشديد على أن هذا التشخيص لا يهدف إلى الانتقاص من الشرعية الأخلاقية والحقوقية للحراك الشعبي في سورية. فمقصودنا يتعلق بشيء آخر هو فرص الترجمة السياسية للحراك بالنظر إلى المعطيات الواقعية، على غموض بعض وجوهها، وآفاقها المحتملة. وهذه طريقة للقول إن الأزمة السورية باتت أكثر من غيرها مرشحة إلى التحول إلى «مسألة» على غرار تلك التي أطلق عليها الغرب الأوروبي في القرن التاسع عشر اسم «المسألة الشرقية». صحيح أن الظروف التاريخية مختلفة، ناهيك عن شروط تشكل المسألتين، لكن هذه الفوارق والاختلافات لا تمنع من وجود وجه مشترك هو تزاحم الرهانات المتضاربة على «المسألة» وحلولها، في كلا الحالتين، وتداخل المحلي والأهلي فيها مع التدافع الإقليمي والدولي مما يجعلها على نحو خاص أشبه بعقدة ثعابين. وما يعزز الاعتقاد بتحول الأزمة السورية إلى مسألة لا يعود إلى الموقع الإقليمي الذي حرصت دمشق منذ أيام حافظ الأسد، وخصوصاً منذ دخول القوات السورية إلى لبنان عام 1976، على حيازته أياً كان السياق وذلك من خلال الإمساك بأوراق إقليمية فلسطينية وعربية، كما يستفاد من النفوذ السوري فلسطينياً ولبنانياً وعراقياً قبيل اندلاع ما يعرف بالثورات العربية. يتعزز الاعتقاد بالضبط من السياق المضطرب وغير المستقر الذي أنشأته حركة الاحتجاج المتنقلة من بلد عربي إلى آخر والتي أدت في جمهوريات مثل تونس ومصر إلى انهيار رأس النظام خلال فترة قصيرة قياساً الى التخبط الذي رأيناه وما نزال في جمهوريات مثل اليمن وليبيا وسورية فيما حسمت المواجهة بسرعة نسبياً في البحرين لمصلحة النظام والمنظومة الأمنية الخليجية كما نجح النظام الملكي في المغرب والأردن في احتواء الاحتجاج الشعبي. وقوف الجيش على الحياد في كل من تونس ومصر ساهم بالتأكيد في تسريع عملية إسقاط رؤوس النظام إضافة إلى أن الحياد هذا أملته مواصفات تشكل اجتماعي أكثر تجانساً ومشاعر انتماء مشترك إلى وطن وأمة يرقى وجودهما إلى زمن سابق على التدخل الأوروبي، بل حتى على السلطنة العثمانية، ما يجعل المواجهة بين «الشعب» والنظام أكثر وضوحاً من الحالات الأخرى حيث يختلط ويتراكب الانتماء الوطني مع الولاء للقبيلة أو الطائفة أو المنطقة. لقد جرى عزل الحالة اليمنية في انتظار أن يقضي الله أمراً. ويأتي المؤتمر الدولي الذي انعقد قبل ثلاثة أيام في باريس وشاركت فيه ستون دولة «لمساندة ليبيا» ليؤكد حسم الأمور لمصلحة المجلس الانتقالي ولمصلحة القوى الدولية والأطلسية التي تدخلت عسكرياً ورجحت كفة الثوار، وفي مقدمها فرنسا الساركوزية. في هذا المعنى تبدو الحالة السورية استثنائية بعض الشيء إذ تتكثف فيها لعبة التنافس الدولية ولعبة النزاعات الإقليمية إلى حد يجعل الصراع الداخلي في سورية محكوماً في نهاية المطاف بمنطق اللعبتين المذكورتين ويملي اصطفافات أهلية طائفية وفئوية كما هو حاصل في لبنان حيث يصبح التعاطي مع الحراك الدائر في سورية مادة لتجديد الاستقطاب والاصطفاف الطائفي. ويزداد الأمر تعقيداً لدى الالتفات إلى صعوبة التدخل العسكري المباشر لغير اعتبار، وخلافاً للحالة الليبية. ويأتي الدعم المشروط من دول حليفة للنظام ليزيد في التعقيد. فليس أمراً بلا أهمية أن يطلب بيان رسمي إيراني الاستجابة لمطالب الشعب المشروعة مع التشديد على ضرورة العمل للحيلولة دون التدخل الأجنبي. وليس مستبعداً أن يكون هناك أطراف في النظام السوري يلعبون على دفع هذه التناقضات إلى أقصاها أملاً بالوصول إلى توازن متجدد يسمح للسلطة بإعادة إنتاج نفسها في قوالب مختلفة بعض الشيء وبطريقة موازية لإعادة إنتاج النظام العربي والإقليمي التي نشهدها في سياق الانتفاضات العربية. لقد جرى تحطيم نظام صدام حسين وبقيت المسألة العراقية مفتوحة. الحالة السورية ليست بعيدة عن أن تكون مسألة مفتوحة على المجهول.