شهدت السنوات الأخيرة دراسات تاريخية دارت في مجملها حول سجلات المحاكم الشرعية لمدن بلاد الشام، وكان الحافز الأساسي لمثل هذه الدراسات هو إدراك الباحثين أهمية المعلومات التي يمكن الحصول عليها من خلال البحث والتنقيب في أسطر هذه السجلات والوقوف على الكثير من المعلومات التاريخية القيمة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني والثقافي. تأتي سجلات المحكمة الشرعية السنّية لمدينة طرابلس في العهد العثماني في مقدم المصادر التاريخية المهمة التي يمكن الاعتماد عليها في دراسة النصوص التاريخية لطبيعة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية ليس لمدينة طرابلس فقط وإنما أيضاً لمنطقة واسعة تمتد من اللاذقية إلى جبيل ومن صافيتا إلى عكار والضنية. وما يتوجب الوقوف عنده أن المحكمة الشرعية عبر الوالي أو القاضي لها حق النظر في جميع القضايا مهما كان موضوعها أو طبيعتها. فالحجج التعليمية لعلماء المدينة وكذا الفرمانات التي تصدر من عاصمة السلطنة وكذلك البيولرديات التي تصدر عن والي المدينة أو كتابة الصكوك وتدوينها من بيع وارث وعقود زواج وطلاق وعتق كانت جميعها على صفحات تلك السجلات ما يفسح لمعرفة أسلوب تلك الكتابات، فهي في الواقع ليست نثراً بقدر ما هي عبارات واصطلاحات فقهية قانونية علمية اصطلح على استعمالها في لغة ذلك العصر. وتغطي هذه السجلات معظم مراحل تاريخ المدينة من العام 1077 ه / 1666 م حتى 1339 ه / 1918 م إضافة إلى سجل إعلامات الطلاق والدعاوى العائلية لسنة 1327/1909 وسجل الأذونات الشرعية للسنوات 1334 ه/1915 م 1341ه/1922 م كما توضح أمور الميراث والزواج والطلاق والوفيات وإيجار الأملاك والتوكيل والعقارات الزراعية والقسم والإفراز والبيع إلى ما تضمنته من فرمانات تدور حول تعيين الموظفين على اختلاف فئاتهم ورتبهم. من هنا تبدو أهمية هذه السجلات في القراءة التاريخية لفترة مهمة من التاريخ العثماني كأحد المصادر الأساسية التي تحوي وثائق مهمة تمكن الباحث المؤرخ بغناها وشموليتها من أن يستخلص التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعلمي لمدينة طرابلس وقسم من ساحل بلاد الشام إبان ثلاثة قرون من الحكم العثماني فيها فعلى صعيد النثر الديواني الذي حفلت به صفحات سجلات المحكمة الشرعية لمدينة طرابلس والتي دارت حول رسائل متبادلة بين حكام المدن وولاتها إبان تلك الحقبة، وهذا النوع من الكتابة النثرية يحمل عادة توقيع من نصه، وال أو حاكم أو وزير أو كتبة الحجج. ومن آثار هذه الكتابة ما وجد في وثائق سجلات المحكمة الشرعية من نصوص تحمل تواقيع محرريها. ومما جاء في كتاب وجّهه عبدالله باشا «مير ميران وكتخدا والي صيدا وطرابلس» إلى السيد مصطفى آغا بربر متسلم طرابلس واللاذقية: «جناب افتخار الأماجد الكرام أخينا المكرم أخاي علمقتدار حرسه الله تعالى غب التحيات الفاخرة وبلوغ التسليمات العاطرة ومزيد الأشواق الوفية الموافرة إلى مشاهدتكم المانونة بكل خير وعافية ونعمة جزيلة وافية دمتم بها المبدى لخوتكم حضر لطرفنا افتخار العلماء الكرام مفتي أفندي محروس الطرابلس المكرم وقرر لنا أن جانب أخينا الأمير بشير الشهابي المكرم مرسل طالب ضماين على أرزاق شاهرلية طرابلس الذي بمقاطعة الزاوية الذي كان صدر لجنابكم التعرف عنهم بالسابق فاقتضى أن سعادة أفندينا ولي النعم حرر الأمير المومى إليه منه كمية المطلوب والاستفسار عنه هذه القضية وبتاريخه حضر الجواب من المومى إليه أن المطلوب منهم عنه الأرزاق الذي لهم بمقاطعة الزاوية ألفين وثلاث ماية وثمانية عشر غرش وعنه الذي لهم بمقاطعة الكورة مايتين وسبعة وثلاثين غرش جملاً ذلك ألفين وخمسمائة وخمسة وخمسين غرش بموجب الدفتر الواصل لخوتكم فلما تحققنا ذلك أصدرنا أمر لأخينا الأمير المومى إليه برفع الزيادة عنه المذكورين ولا يصير عليهم ضمايم ويكون خراجهم القديم على قدمه لأجل استجلاب دعواتهم الخيرية لا سيما أن موجود بهذه الأرزاق أرزاق تخص الجوامع والمساجد والعلما والفقرا فاقتضى إشعار جنابكم بكيفية القضية لكي تكون معلومة عند إخوتكم وفيما بعد نرغب مواصلة أخبار صحتكم معما يلزم ودمتم محروسين». أو كما جاء في رسالة من سليمان باشا العادل والي عكا إلى الأمير بشير الشهابي الثاني بتاريخ 1233 ه / 1817 م: «افتخار الأمراء الكرام مراجع الكبراء الفخام ولدنا المكرم الأمير بشير الشهابي زيد مجده غب التحية والتسليم بحراسكم الأعزاز والتكريم والسؤال عن خاطركم في كل خير المنهي إليكم بخصوص أديرة الروم المرقومين أعلاه الكائنين في مالكتنا ثلثا الكورة وفي جبة بشري وفي البترون». ومما يلفت النظر في هذا النوع من الكتابة النثرية أن أسلوبها صيغ بألفاظ عامية ركيكة وفيها الكثير من الإطناب «جناب افتخار الأماجد الكرام» وحضر لطرفنا «افتخار العلماء الكرام» كما في هذا الأسلوب النثري طائفة من طرائف التعبير التي اتصفت بها المراسلات الرسمية «غب التحيات الفاخرة وبلوغ التسليمات العاطرة ومزيد الأشواق الوفية الوافرة إلى مشاهدتكم المانوسة» فعبارات التحية والأدعية تتصدر النص «حرسه الله تعالى» وكلمات «دمتم محروسين والمحب المخلص» في ختامه كما يوجد الكثير من التراكيب العامية في هذه النصوص منها «مرسل طالب ضماين على أرزاق». وعلى رغم غلبة الأسلوب العامي على هذا النوع من الكتابة الرسمية نجد بعض النصوص المكتوبة بلغة أرقى وأسلم وبتعابير فصيحة أدق وأوضح من ذلك نص الحجة الوثيقة المتضمنة تقرير المماليك والعتق من مصطفى آغا بربر حاكم طرابلس واللاذقية والحاملة تواقيع بعض علماء المدينة وكتبتها ومما جاء في نص الحجة: «حجة متضمنة التقرير بشراء المماليك والعتق من مصطفى آغا بربر زاده بالمجلس الشرعي المعقود بديوان سراي طرابلس الشام المحمية لدى متولية مولانا وسيدنا السندروسي محمد أفندي الحاكم الشرعي حالاً وذلك بحضور جناب عمدة الأماجد والأكارم حاوى صفوف المحامد والمكارم بربر زاده السيد مصطفى آغا قيمقام طرابلس الشام ولاذقية العرب». أما عن كتابة الصكوك فقد شاع استعمالها وكثر تداولها لأنها تدخل في أمور البيع والتولية والأوقاف وتوزيع الميراث لذلك فإن أكثر هذه الصكوك كان يصدر عن عمدة العلماء والمشايخ في المدينة من من كانت لهم المعرفة الشرعية والفقهية في هذه العلوم ومن الملاحظ أن هذه الصكوك كانت تتصدرها بعض العبارات والجمل التي عم تحريرها في هذه الأنواع من الكتابات واستوقفنا من هذه العبارات والجمل ما يأتي: «بمجلس الشرع الشريف ومحفل الحكم المنيف بطرابلس الشام المحمية أجله الله تعالى نصب متولية مولانا وسيدنا عمدة العلماء والمدرسين الكرام إنسان عين القضاة والحكام مختار حضرة ولي النعم شيخ الإسلام وغوث الأنام ومرجع الخاص والعام أعلم العلماء المتبحرين الأعلام وأفضل الفضلاء المتروعين الفخام». وفي غيرها من العقود والصكوك التي تتصدر الصك: «بسبب تحريره وموجب تسطيره هو أنه قد حضر لدى شهوده أدناه وهو في أرق حال من صحته ووقور عقله ونفوذ تصرفاته الشرعية وباع بالطوع والرضا والاختيار من غير إكراه ولا إجبار ما حوله وبيده وملكه ومنتقل إليه بالإرث الشرعي من أبيه بحيث يصوغ له بيعه وقبض ثمنه وأنواع التصرف فيه شرعاً من حافظ هذا الكتاب الشرعي وناقل ذا الخطاب المرعي افتخار السادة المحترمين». هذا النوع من الكتابات في وثائق سجلات المحكمة الشرعية من حجج ونثر ديواني وكتابة صكوك عكس أهمية الدور الذي وفرته سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس لجميع الباحثين الذين شدتهم تلك الوثائق للوقوف على طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والإدارية لمدينة طرابلس وجزء مهم من ساحل بلاد الشام إبان تلك الحقبة.