تميزت الكتابات النثرية طيلة القرن التاسع عشر باعتماد مصطلحات لغوية وتعابير غلب عليها الأسلوب العامي وكانت في معظمها دون المستوى الذي عهدته اللغة العربية في ما قرأناه في فترات سابقة في نصوص الكثير من الكتاب الذين شغلوا مناصب الكتبة عند الولاة والقضاة ونساخ الدواوين والصكوك. ولا يخفى أن هذا النوع من الكتابات النثرية والذي شكل وثائق تاريخية مهمة باعتبار ما جاء فيها من معلومات اعتمدها المؤرخون والباحثون كمادة تاريخية خام استقى منها هؤلاء مواضيع كتبهم ورسائلهم الأكاديمية. وحفلت سجلات المحكمة الشرعية لمدينة طرابلس، بنصوص نثرية تناولت أمور الميراث والزواج والطلاق والوفيات وإيجارات المحاكم والتوكيل والعقارات الزراعية والقسمة والإفراز والبيع وحجج العتق. بالإضافة إلى ما تضمنته من فرمانات وبيولرديات وهي عبارة عن قوانين ومراسيم صادرة عن الباب العالي وحكام المدن كما تضم السجلات نصوص فرمانات تدور حول تعيين الموظفين على اختلاف فئاتهم ورتبهم. وما ورد في متون هذه الوثائق من تفاصيل وشرح لوقائع سواء ما اتخذ منها الطابع الرسمي أو ما ورد من حجج التعليم والعتق والإفراز والتوكيل كانت له صفة النثر الديواني الذي ميز كتابات تلك الفترة والذي كان يحمل عادة توقيع من نصه من وال أو وزير أو كتبة الحجج. ومن آثار هذه الكتابة الكتاب الذي وجهه عبدالله باشا والي صيدا العام 1230- 1814 إلى مصطفى آغا بربر حاكم طرابلس واللاذقية «صورة قايمة من عبدالله باشا ميرميران وكتخدا والي صيدا وطرابلس إلى السيد مصطفى آغا بربر متسلم طرابلس واللاذقية جناب افتخار الأماجد الكرام أخينا المكرم أخاي علمقندر حرسه الله تعالى غب التحيات الفاخرة وبلوغ التسليمات العاطرة وفريد الأشواق الوفية الموافرة إلى مشاهدتكم المأنوسة بكل خير وعافية ونعمة جزيلة وافية دمتم بها المبدى لخوتكم حضر لطرفنا افتخار العلماء الكرام مفتي أفندي محروسة طرابلس المكرم وقرر لنا أن جناب أخينا الأمير بشير الشهابي المكرم مرسل طالب ضمايم على أرزاق شاهيرليه طرابلس الذي بمقاطعة الزاوية الذي كان صدر لجنابكم التعريف عنهم بالسابق فاقتضى أن سعادة أفندينا ولي النعم حرر الأمير الموحى إليه عنه كمية المطلوب والاستفسار عنه هذه القضية وبتاريخه حضر الجواب من الموحى إليه أن المطلوب منهم ثمنه الأرزاق الذي لهم بمقاطعة الزاوية ألفين وثلاثماية وثمانين عشر قرش وعنه لهم بمقاطعة الكورة مايتين وسبعة وثلاثين غرشا جملا ذلك ألفين وخمسماية وخمسة وخمسين غرش بموجب الدفتر الواصل لخوتكم»... إلى أن ينتهي قائلاً: «لا سيما أن موجود بهذه الأرزاق أرزاق تخص الجوامع والمساجد والعلما والفقرا فاقتضى إشعار جنابكم بكيفية القضية لكي تكون معلومة عند اخوتكم وفيما بعد نرغب مواصلة أخبار صحتكم معنا يلزم ودمتم محروسين»... المحب المخلص السيد عبدالله ميرميران وكتخدا والي صيدا وطرابلس حالا. ويحدثنا إبراهيم العورة في كتابه «تاريخ ولاية سليمان باشا العادل» عن عبدالله باشا مشيراً إلى ظروف توليه صيدا وكيفية تنصيبه مكان أبيه، فيقول: «وتقدم من محل وقوفه أي سليمان باشا ووضع يده على كتف عبدالله بك وقال بأعلى صوته يسمع الجمع أن علي باشا ما مات هذا علي باشا وهذا أعز عندي من علي باشا وهذا عمدتي وأومى بإحضار الخلعة الفاخرة فباللحظة حضرت وألبسها له بيده ووضعها على أكتافه». وكذلك نلاحظ خصوصية النثر الديواني في ما قرأناه في نص البيولرلدي الذي أصدره مصطفى آغا بربر لأهل القلمون بإرفاع ضريبة الميري عن أهالي البلدة، ومما جاء فيه: «عمدة السادات الكرام السيد الشيخ محمد زيد شرفه وأعلا ما به إلى كامل اختيارية ووجوه وأهالي قرية القلمون بموجبه العموم تحيطون علماً بعد السلام التام المهنى هو أنه غير خافيكم بخصوص مقاطعة ثلث الكورة قد توجهت لعهدتنا الفاخرة مالكانه بموجب براءة سلطانية خاقانية بهمم ووجود أفندينا ولي النعم الدستور الوقور المفخم... ومعلومكم بأن قرية القلمون مرتب عليها مل ميري سنوي عايد إلى مالكاتنا المرموقة فبناء على ذلك حسنة لوجه الله تعالى وتعظيماً واحتراماً إلى رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم بما أنكم أناس مسلمون أشراف من سلالة عبد مناف وإكراماً وتوقيراً إلى جدكم الأعلى ولي الله القصيباتي رضي الله عنه وابتغاء لنوال الثواب والأجر الجزيل من لدنه تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم قد سمحنا لكم عامة لجمع المال الميري المرتب عليكم بكل سنة لجهة مالكتنا المرموقة سماحاً أبدياً وهبة سرمدية لا يؤخذ منكم من ذلك درهم الفرد ولا تتكفلوا إلا قليلاً ولا جليل. وكذلك منعنا الأعراض لسعادة أفندينا ولي النعم المفخم بالرجاء والاسترحام بالالتماس من الباب العالي إخراج أمر ملوكي ملوكاني سلطاني تثبت توكيد هذه المسامحة لتكون هذه الخيرية مستمرة ومستديمة إلى ما شاء الله تعالى دستور العمل من على ذلك ورنا لكم هذا البيولردي ليكون معلومكم أنتم أهالي قرية القلمون عموماً كباراً أو صغاراً بأن المال الميري المرتب عليكم وكنتم توردوه في كل سنة لجهة ثلث الكورة مالكاتنا قد سمحنا لكم به ورصيدنا ترقامه من رزنامة المطلوبات وإن شاء الله تعالى الرحمن هذه الخيرية بأنفاس وأمر حضرة مولانا السلطان حضرة القدير الرحمن وبأنفاس سعادة أفدياتنا الوزراء الفخام وغير متقلقلة». أما تاريخ هذا البيولردي فهو العام 1814 -1229. ومما يلفت في هذا النوع من الكتابة النثرية هو أن أسلوبها قد صيغ بألفاظ عامية ركيكة وجمل فيها الكثير من الإطناب «جناب افتخار الأماجد الكرام» «حضر لطرفنا افتخار العلماء الكرام» كما في هذا الأسلوب النثري طائفة من طرائف التعبير التي اتصفت بها المراسلات الرسمية «غب التحيات الفاخرة وبلوغ التسليمات العاطرة ومزيد الأشواق الوفية الوافرة إلى مشاهدتكم المأنوسة». فعبارات التحية والأدعية تتصدر في مقدمة النص «حرسه الله تعالى» وكلمات «دمتم محروسين والمحب المخلص في ختامه» كما يوجد الكثير من التراكيب العامية في هذه النصوص، منها «مرسل طالب ضمايم على أرزاق» « ولا يصير عليهم ضمايم». أما في ما خص كتابة الصكوك، فقد شاع استعمالها وكثر تداولها لأنها تفصل في أمور البيع والتولية والأوقاف وتوزيع الميراث، لذلك فإن أكثر هذه الصكوك كانت تصدر عن عمدة العلماء والمشايخ في المدينة ممن كانت لهم المعرفة الشرعية والفقهية في هذه العلوم. ومن الملاحظ أن هذه الصكوك كانت تتصدرها بعض العبارات أو الجمل التي تم تحريرها في هذه الأنواع من الصكوك. ومما استوقفنا من هذه العبارات «بمجلس الشرع الشريف ومحفل الحكم المنيف نصب متوليه مولانا وسيدنا عمدة العلماء والمدرسين الكرام إنسان عيّن القضاة والحكام مختار حضرة ولي النعم شيخ الإسلام وغوث الأنام ومرجع الخاص والعام أعلم العلماء المتبحرين الأعلام وأفضل الفضلاء المتورعين الفخام». أو مما كنا نلاحظه في غيرها من العقود والصكوك المتعلقة بالبيع بعض العبارات التي تتصدر الصك «سبب تحريره وموجب تسطيره هو أنه قد حضر لدى شهوده أدناه وهو في أرق حال من صحته و ووفور عقله ونفوذ تصرفاته الشرعية وباع بالطوع والرضا والاختيار من غير إكراه ولا إجبار ما هو له وبيده وملكه منتقل إليه بالإرث الشرعي من أبيه بحيث يسوغ له بيعه وقبض ثمنه وأنواع التصرف فيه شرعاً من حافظ هذا الكتاب الشرعي وناقل ذا الخطاب المرعي افتخار السادة المحترمين». وعثرنا على الكثير من هذه الصكوك التي تحمل تاريخ كتابتها، منها ما أرخ تسطيره في 1265 هجرية. ومما جاء فيها «وبما يعرف للمبيع ويعزى إليه شرعاً على تناهي الحدود والجهات بيعاً باتاً قطعياً واشترا صحيحاً مرعياً عن ألفين والعزر والمفاسد الشرعية كلامها خلياً عن ذلك بالإيجاب والقبول والتسليم والتسلم للشرعيان بالتخلية الشرعية تسلم منه شرعاً بثمن قدره وبيانه من القروش الأسدية الرابحة السلطانية معاملة يد بيد أربعة آلاف قرش وأربعمائة قرش هو ثمن المثل ومنتهى الرغبات مقبوض الثمن بتمامه بالمعاينة الشرعية لدى شهوده أدناه فبرئت ذمة المشتري من عامة الثمن المعين ومن كل جزء منه البراءة الشرعية غب الروية والخبرة والمعاقدة الشرعية». ومما يسترعي الانتباه في كتابة هذه الصكوك توارد بعض العبارات التي تعطي النص الصياغة الشرعية ومنها «وبكل حق وتابع هو للمبيع شرعاً من طرق وطرائق ومضافاة واستمالات وتوابع وبما يعرف للمبيع ويعزى إليه شرعاً على تناهي الحدود والجهات بيعاً قطعياً» ومنها أيضاً «ومن كل جزء منه البراءة الشرعية وسلمه المبيع بالتخلية الشرعية» و «غب الروية والخبرة والمعاقدة الشرعية واعتبار ما يجب اعتباره شرعاً وضمان الدرك والتبعة لازم شرعاً». تبقى الإشارة إلى أن هذا النوع من النثر الديواني قد شاع استعماله عند معظم كتاب تلك الحقبة التاريخية وتكمن أهميته كونه يوفر للباحثين المادة التاريخية الخام التي تضيء على ما تضمنته الوثائق التاريخية من معلومات تتعلق بقضايا الوقف والإرث والمقاسمة وعلى نصوص الفرمانات والبيولرديات المتعلقة بتعيين الحكام والموظفين.