ليس جديداً تخاصم معارضين سوريين «علمانيين»، أو الحساسية البالغة للعلاقات في ما بينهم. الواقع أن التخاصم هو النسق المستقر للعلاقات بين تياراتهم طوال عقود الحكم الأسدي الأربعة. تختلف أسانيد الخصومة، أو التسويغات الإيديولوجية التي تقدم لها، لكن الخصومة نفسها مستمرة، ما يوحي بأن لها جذوراً اجتماعية تتجاوز الشروح المتداولة. وعموماً كان الموقف من النظام هو محور الانقسام الجوهري، وإن استعار هذا الانقسام حججه ولغته من العتاد الإيديولوجي المزامن، الماركسي والقومي العربي أيام أزمة الثمانينات، والديموقراطي والوطني اليوم. المسألة هي: هل مشكلتنا الرئيسية هي النظام، ويتعين تغييره أولاً، أم أن مسألة النظام واحدة من مسائل متعددة، مثل الإمبريالية والصهيونية والأصولية، ولا بد من مواجهتها معاً؟ الواقع أن الموقف الأخير يحول دون بلورة أية سياسة معارضة متماسكة، ليس فقط لأنه يطرح مهام تتجاوز قدرات أي معارضين سوريين محتملين، ولكن بخاصة لأن النظام لا يبيح لأحد أن يعترض على أي شي، لا الصهيونية ولا الإمبريالية ولا الأصولية، ولا انتشار الأوساخ في شوارع المدن، بصورة مستقلة عنه، أو أن يعمل هذا الأحد لحسابه فعلاً. يعود الأمر إلى خصوصية الوضع السوري المتمثل في ضرب من «الشمولية» يحول دون وجود قوى سياسية منظمة وفاعلة، إلى درجة أن كلمة معارضة بالذات تبدو هنا مجازية وتقريبية جداً. ولعلنا نصيب أكثر إن قلنا إنه يتعين تغيير النظام من أجل أن توجد معارضة أكثر مما لو قلنا إن هذا التوجه المعارض أو ذاك هو ما يحول دون التغيير في سورية. وهذا ما يجعل من تغيير النظام أولوية عليا لأنه شرط وجود المعارضة، حتى قبل أن يكون شرط فاعليتها. وهي بالطبع لا تستطيع أن تكافح من أجل أي شيء أو ضد أي شيء إن لم توجد. ونفترض أن نصف قرن من الحكم البعثي كاف للبرهان على ذلك، إذ لم تنشأ خلاله إلا منظمات صغيرة، كان تأثيرها على الحياة العامة محدوداً على الدوام أو أكثر محدودية. ولطالما كان ميسوراً كل اليسر على النظام سحقها إذ عرضت منزعاً استقلالياً حقيقياً، علماً أنها لم تشكل يوماً خطراً جدياً عليه. وعموماً تنتظم استقطابات المعارضة السورية في صورة طرف يعرف نفسه بمواجهة «آخر» هو النظام، وطرف آخر أميل إلى تعريف نفسه بمواجهة هذا المعارض الآخر، ويدخر له أعنف غضبه وأقوى انفعالاته. هذا معارض أيضاً، لكنه حساس لخصومته مع المعارض الآخر أكثر. وفي هذا الشأن النبرات والإيماءات و «اللاكِنّات» وتلاوين الكلام تقول أكثر بكثير مما تقوله العبارات المجردة والمواقف الظاهرة. سيبدو معارضون لمعارضين أقل شيوعية أو ديموقراطية أو قومية أو وطنية مما هو صحيح وواجب. غير أن هذه أحكام إيديولوجية لا قيمة لها غير إسعاف الخصومة بزاد فكري يطيل عمرها. أما الخصومة ذاتها فهي أحد أوجه أزمة الثقة الوطنية التي اعتاش النظام سياسياً عليها منذ وقت مبكر من حكم حافظ الأسد، أعني أن يخاف السوريون من بعضهم أو يرتابوا ببعضهم، بحيث يغدو النظام مصدر التماسك الوطني الوحيد. وهذه سياسة واعية، تتوافر عليها شواهد كثيرة متواترة، وتنبثق من الأولوية العليا لنخبة النظام القائدة، البقاء في الحكم إلى الأبد. وبمحصلة أزمة الثقة الوطنية يخاف الكرد من العرب، ويرتاب العرب بالكرد، ويخاف المسيحيون من المسلمين، وينفر المسلمون من المسيحيين، ويتبادل السنيون والعلويون الخوف والارتياب ببعضهم، ومثل ذلك بين العلمانيين والإسلاميين، ومثله أيضاً بين المعارضين الذين ينتظمون في صيغة «ممانعين» و «ليبراليين»، أو أثناء الثورة السورية في صيغة داخليين «شرفاء» وخارجيين «عملاء»، أو طالبي التدخل الخارجي ورافضيه. وعلى هذا النحو يغدو النظام هو الحل، وسيعتمد في أمنه واستقراره وإعادة إنتاجه لنفسه على أن يتفوق خوف السوريين من بعضهم، وعدم ثقتهم ببعضهم، على خوفهم منه أو عدم ثقتهم به. وهو ما يجعله حلاً لمشكلات تبدو «طبيعية» ومحفورة في أصل السوريين وفصلهم. وفي سياق يهيمن عليه النظام، لونت السنون الطوال العلاقات بين معارضين، مقزّمين جميعهم، بألوان من النفور والضغينة والبغضاء، تستعصي على الإصلاح والمعالجة العقلانية. ولعل الشيء الذي حول ما يفترض أنه اختلافات وفوارق نسبية تقبل التوضيح والشرح إلى أزمة ثقة غير معكوسة هو اختلاط تلك الفوارق بالمخاوف والهواجس والأهواء والارتيابات التي لا تسمى بأسمائها ولا تناقش صراحة. النظام يمنع ذلك. وإيديولوجيات المعارضين لا تسعف في مباشرته. وعلى هذا النحو يكتسح جنون الارتياب الوعي العام، فلا يبقى في المجتمع «عقل» سليم. وما جرى عبر سنوات من تبادل الريبة والضغينة أن تجمدت الخلافات النسبية في صورة تمايزات جوهرية، أي طوائف بالفعل. ولا أعني بذلك أن أزمة الثقة بين تشكيلات المعارضة التقليدية انعكاس لأزمة الثقة بين طوائف وإثنيات، أو أن الأحزاب تعبيرات عن طوائف، بل أن الأحزاب المتخاصمة تحولت إلى طوائف هي ذاتها، أعني إلى حساسيات وأذواق، وأشخاص، و «هويات». الطوائف ذاتها، بالمعنى الشائع للكلمة، نتاج سياسة تقسيمية أكثر مما هي سبب لها. يثبتها ويجعلها أشد استعصاء على التوضيح والمعالجة سكوت المثقفين والسياسيين على سياسة الانقسامات الطائفية. وحين نتكلم على تطييف للتنظيمات الحديثة فإننا نعني أن البعد الرمزي «اللازم» في تكوينها (الذي يتأسس عليه التعارف الداخلي للأفراد والجماعات) يتفوق على البعد المفهومي والعقلاني «المتعدي» (الذي يشركهم مع غيرهم). وبالفعل لم يعد لأي من تنظيمات المعارضة التقليدية مرجعية فكرية واضحة، يمكن شرح سلوكها استناداً إليها، ولا برامج سياسية تفسر شيئاً من سياساتها. إنها طوائف جديدة. والعلاقة «الطبيعية» و «الصحيحة» بين «الطوائف» هي التخاصم وعدم الثقة، وربما الصراع المفتوح. ولقد انطبعت تنظيمات المعارضة التقليدية بهذه البنية واستبطنتها. ليس فقط أنها لم تستطع أن تطور تواثقاً وطنياً يعاكس مفعول أزمة الثقة الوطنية، ويفتح أبواب تجاوزها، وإنما هي بالذات أحد أوجه دوامها. وبينما لا تتساوى المواقف كلها في نطاق أزمة الثقة الوطنية، فإن كل ما دون النجاح في كسر هذه البنية إنما يندرج في منطق إعادة إنتاجها. الفاشل مخطئ وإن أصاب. كسر البنية هو الثورة. أزمة الثقة الوطنية هي التحدي الأقوى الذي تواجهه الثورة السورية اليوم. فهي لا تقل عن الفاعلية القمعية للنظام في الحد من انتشارها العام، وهي المشكلة الأولى التي ستواجه سورية بعد الثورة، وستكون موضوع السياسة الأبرز، بل تعريف السياسة، في سورية ما بعد الأسدية.