جرى الصراع جاداً بين القنوات التلفازية والصحف الورقية والمذاييع الأثيرية على أحقية لقب «شهيد» من عدمه فيمَن يُقتل في الأراضي الفلسطينية. وقد ظهر التنازع أكثر ما ظهر بين قناتي «العربية» و«الجزيرة»؛ حيث تذكر الأولى الخبر عارياً من لفظ «الشهيد»، فيما تعمد الثانية إلى إصباغ هذه المفردة؛ لتدغدغ بها الباحثين عن الحور العين والطاردين وراء الكرامة المسلوبة، ليذلوا أعداءهم قائلين لهم: «قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار»! وعندما حلت بي «عقوبة البحث عن الصواب في أي القناتين يكون» لم أنم ليلي راكضاً في بطون الكتب، ومنابت الثقافة، وأودية «السليكون الفقهي» الذي لم يترك للمرء مجالاً للضياع أو طريقاً للصراع أو درباً للنزاع. طويت الكتب، وكانت كتب الفتاوى أكثر الظنون احتمالاً، ولم تُكذب الكتب هواجسي وظنوني؛ فما هي إلا لحيظات حتى وقعت –ولم يقع الكتاب- في مؤلف صغير اسمه «التنبيهات الشرعية على الأخطاء اللفظية» لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -، وقد وُجه إليه في ص80 السؤال التالي: «هل يجوز إطلاق (لفظ) شهيد على شخص بعينه فيُقال: الشهيد فلان؟»، وكانت إجابته – رحمه الله - على النحو التالي: «لا يجوز لنا أن نشهد لشخص بعينه أنه شهيد، حتى لو قُتل مظلوماً، أو قُتل وهو يدافع عن الحق؛ فإنه لا يجوز أن نقول: فلان شهيد، وهذا خلاف لما عليه الناس اليوم، حيث رخصوا هذه الشهادة، وجعلوا كل مَن قُتل، حتى ولو كان مقتولاً في عصبية جاهلية، يسمونه شهيداً، وهذا حرام؛ لأن قولك عن شخص قُتل وهو شهيد يُعتبر شهادة سوف تُسأل عنها يوم القيامة، سوف يُقال لك: هل عندك علم أنه قُتل شهيداً؟ ولهذا لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مكلوم يُكلَم في سبيل الله - والله أعلم بمَن يُكلَم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة وكُلمه يَثْعبُ دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك» رواه البخاري؛ فتأمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والله أعلم بمَن يُكلم في سبيله» يُكلم يعني يُجرح، فإن بعض الناس قد يكون ظاهره أنه يُقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ولكن الله يعلم ما في قلبه، وأنه خلاف ما يَظهر من فعله، ولهذا بوب البخاري – رحمه الله - على هذه المسألة في صحيحه فقال: «باب لا يُقال فلان شهيد»؛ لأن مدار الشهادة على القلب، ولا يعلم ما في القلب إلا الله - عز وجل -؛ فأمر النية أمر عظيم، وكم من رجلين يقومان بأمر واحد يكون بينهما كما بين السماء والأرض». تُرى هل يقنع أهل قناة «الجزيرة» وغيرها ممن يمارسون «المجانية الرخيصة» في إطلاق «الشهادة» على كل قتيل ومقتول؟ فالدين الذي تقتبس القناة وغيرها منه أعطى «مسميات» ولم يعطِ أسماءً! إن التزكية «المستعارة» المتمثلة في وصف «القتيل» بالشهادة هي بلادة حمراء، وأبلد منها مَن يصف مفجري أنفسهم بأنهم أصحاب عمليات «استشهادية»؛ فيا لرخص الشهادة، ويا لوضاعة شأنها إذا كانت تُنال بهذه الحماقة الزرقاء! إن القلم هنا لا يسعه إلا أن يرفع راية التقدير لقناة «العربية»، وتحية خاصة للصديق الأستاذ عبدالرحمن الراشد مدير عام القناة الذي لم يكن صاحب خيل شقراء يطير مع السرب في بلادته ومجانيته و«تطاوله على علم الغيب»! كفى سخرية أيها المجانيون، وزنوا ألفاظكم، ليس بميزان الشرع فقط بل بميزان العقل والمنطق والوعي، وكل هذه المفاهيم تؤدي إلى «روما الدقة في إطلاق النعوت»، وتوزيع المنح الأُخروية! ويجب أن تحترموا رأي المشاهد الذي يسأل على الدوام قائلاً: «كيف عرفتم أن هؤلاء القتلى شهداء؟!»، أتخذتم عند الله عهداً أم كنتم إليه – جل وعز - من المتحدثين؟ والله من وراء القصد.