رأيتها طائرة بين الحمام الأبيض. تسبح في الفضاء بنعومة كسمكة في الماء. ترتدي غلالات بيضاء من قطن شفيف. يتراقص ذراعاها إلى جوارها كجناحين سعيدين بالسماء الصافية والفضاء الخالي. جسدها المتكور يطول ويقصر كلما شرب من النور. ما زالت تحلق في انسجام بين الحمام الأبيض. لا يدل على أنها ليست حمامة إلا خصلات شعرها الطويل. تلهو به النسائم. ترفعه وتخفضه. كلما تحركت كتبت شيئاً على صفحة السماء بلغة الموسيقى والبراءة. منذ الطفولة اجتذبتني هواية التصوير. افتتحتُ منذ سنوات محلاً أدلل فيه البشر من خلال الصورة. أصور الطبيعة لهوايتي والاستديو لأكل العيش. تركت المحل وحيداً وانطلقت وراء الحمائم وبينها الغندورة. تمايلت وتهادت ومثلها فعلت رفيقاتها فتشكلت زفة لعروس. صبية فاتنة ووديعة مثل حلم. عاشقة حديثة العهد بالعشق. اجتذبت إليها العصافير والعنادل والصقور، ثم النسور والغربان. أبدت جميعها دهشتها من حمامة كبيرة. الحمامة المميزة جميلة وبلا مخالب. خفق قلبي خوفاً عليها. لا أرتاح للغة العقبان والغربان. كيف أناديها وأدعوها للهبوط. مهما تساميتِ فمكانك الأرض. مهما رق شعورك أو رُمتِ الابتعاد عن غلاظة البشر، فحياتك نهر صغير يجري بين الحقول والجسور والجبال والبيوت. زاد إشفاقي عليها، وأنا أرى القطط والكلاب تتطلع إليها بتحفز وتبعتها الذئاب والقرود والثعالب. غير مستبعد أن تبحث تلك الحيوانات عن سبيل للصعود إليها. يستحيل السكوت الآن بعد أن تجمع الصيادون. شرعوا يعدون بنادقهم ليصوبوها نحو الصبية البريئة. عودي. أرجوك اهبطي. أنتِ على وشك الموت. أسرعت أمنع الصيادين. طويتُ لساني بإصبعي السبابة والبنصر وأطلقتُ زفيراً قوياً فدوت صفارة حادة. لم يتغير المشهد الذي يعيش لحظات هانئة قبل العاصفة الدامية. عدتُ أصفر بكل قلبي مرات متتالية. أخيراً، تحرك موكب الطيور. الحمامة الأرضية الكبيرة في الوسط. دعوت الله أن يحفظها حتى نلتقي. ابتعدت الطيور. سرتُ باتجاهها. جريت وجريتُ. تعبتُ وتعثرتُ، لكني واصلت. رأيتُ موكب الطيور يحط على قمة جبل أسرعتُ أتسلقه. الجبل الصخري يمزق كفيّ وركبتيّ. بلغتُ القمة. السرب كله أمامي. الحمامة الكبيرة تبدو في حجم حصان صغير. كيف تصورتُ أنها صبية؟ لم أكن أحلم. ربما كانت إوزة كبيرة. الأرجح أنها بجعة. دنوتُ. فزعت الطيور وحلقت عالياً. هل كانت مجهدة، أم تنتظرني؟ عانقت البجعة فاستسلمت. يبلغ منقارها كتفي. من الذي يمكن أن يصورنا الآن؟ حملتها فلم تقاوم، هبطت الجبل دهشت لأنها سبقتني إلى البيت عندما وصلنا أول الشارع. دخلت كل الغرف. اتجهت من دون معاونة إلى الحديقة الخلفية الصغيرة وأقبلت تشرب من حوض الماء. التقطت بعض أوراق النعناع والريحان. تأملتها طويلاً. السماء تبدع الشعر أحياناً! أصبحت رفيقتي الدائمة حتى في السرير. نعد الطعام معاً ونشاهد التلفزيون. نخرج معاً ونجلس على المقهى. في الصباح توقظني وتسبقني إلى السيارة لنتنزه. تعلمت القيام ببعض الأعمال في الاستديو. الزوار يداعبونها ويطلبون أحياناً أن تشاركهم الصور. أنهت عصر الوحدة. الباعة في الطريق يحيونها وتحييهم ويناولونها الخُضَر والأسماك الصغيرة. اكتفيت بها عن كل أنيس. لاحظت أنها تترك الاستديو وتبقى في محل «درية» الكوافيرة على الناصية. تطيل البقاء هناك. استعدتُها مرات عدة. جاءتني مرة ومعها كلب صغير مثلها أبيض وفي رقبته «فيونكة» حمراء. دعته للدخول. توجست في البداية لكني تمنيت أن تبقى معي لنهاية العمر.