مساحات صغيرة ملونة بالبهجة والسخرية، تتشابك خطوط الرسم فوقها لتشكل طاقة للمرح والحياة، يوزعها رسام الكاريكاتير سمير عبد الغني على متابعيه، ويبثها أيضاً في قلوب المحيطين به. هي طاقة المرح نفسها التي كان يشعر بها وهو يقف أمام تلك المرآة الكائنة في أحد أركان بيته وهو صغير. مرآة تحرف نسب الجسد وتغير ملامح الوجه كانت هي أول علاقة له بهذا العالم الذي ارتبط به طوال حياته. وكطفل مشاكس كان يرسم زملاء المدرسة، وقع في مفارقات قاسية جعلته يعرف قوة هذه الأداة التي يهم بامتلاكها. وهكذا أتيح له في ما بعد التواصل مع أحد أبرز فناني الكاريكاتير المصريين، أحمد حجازي. فكان يرسل إليه رسومه عبر البريد ويهاتفه، حتى طلب منه أن يأتي إليه في القاهرة. جاء سمير عبد الغني من الإسكندرية محملاً بالأحلام والطموحات، وفي القاهرة أعطاه حجازي أولى نصائحه التي أدهشته حينها، قال له: إذا أردت أن تعمل رساماً للكاريكاتير، فعليك أن تبحث عن مهنة أخرى. عرف سمير عبد الغني معنى تلك النصيحة في ما بعد، ففي مجتمعاتنا لا تستطيع أن تتخذ من وسيلة لإبداء الرأي مهنة لك. بدأ سمير عبد الغني في نشر رسومه الكاريكاتيرية منذ حطَّ رحاله في القاهرة في عدد من الصحف، قبل أن يبدأ في نشرها أيضاً على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي يراها اليوم أكثر رحابة وإتساع صدر من الصحف التي عادة ما تصنع لنفسها سقفاً خانقاً للتعبير، وهو ما لم يكن يتمناه أبداً بعد ثورة كانت الحرية على رأس مطالبها. هذا السقف كما يقول عبد الغني يوجد بناء على اتفاق ضمني بين السلطة ووسيلة النشر، فلا يجد رسام الكاريكاتير مفراً أمامه غير الالتزام بهذا السقف رغماً عنه، فهو يعرف أن الرسوم التي سيقدمها خارج هذا الحيّز سيكون مصيرها سلة المهملات، ومن هنا تأتي الرقابة الذاتية وهي أسوأ أنواع الرقابة على الإطلاق. يقول عبد الغني: قبل الثورة، كان هناك شبه حظر على تناول شخصيات بعينها، وكان الرئيس على رأس هذه الشخصيات بالطبع، يليه مباشرة وزير إعلامه صفوت الشريف، إذ كان هو المسؤول الأوحد عن الصحف، ويستطيع بجرة قلم وقف طباعة أي صحيفة. كان كل ما نستطيع فعله هو مجرد الالتفاف حول الأمر، فحين كنا نشير إلى مبارك، على سبيل المثال، كنا نرسم فرعوناً. ما هو تقييمك لانعكاس مناخ الثورة على الكاريكاتير؟ - في بداية الثورة وخلال العام الذي وصل فيه الإخوان إلى السلطة كانت الحرية بلا سقف، ولم يكن الأمر بسبب إيمان الإخوان بالحرية أو قناعتهم بضرورة إطلاق العنان لوسائل التعبير، ولكن طبيعة المرحلة كانت تفرض نفسها على الأجواء. أما الآن فأعتقد أن هناك تراجعاً ملحوظاً وأخشى أننا عدنا مرة أخرى إلى عصر ما قبل مبارك. فلا يوجد اليوم صحف معارضة. هناك تصنيف واحد، فإما أن تكون معنا أو أن تكون ضدنا. ويقف رسام الكاريكاتير في موقف لا يحسد عليه إزاء ذلك، ومن ثم عاد للتحايل والالتفاف حول الفكرة مرة أخرى. فضلاً عن تراجع سقف الحريات، يعاني فن الكاريكاتير من تراجع الاهتمام به وقلة عدد الرسامين الجيدين، في وقت زاد عدد الصحف التي لا تؤمن بقيمة الكاريكاتير كوسيلة للتعبير. حين ظهرت مجلة مثل «صباح الخير» في منتصف خمسينات القرن الماضي كان ضمن أسرة تحريرها حوالى 30 رسام كاريكاتير، في حين ظلت جريدة مهمة مثل «أخبار اليوم» تعتمد على رسام واحد سنوات طويلة. خلال ال 18 يوماً التي سبقت تنحي حسني مبارك، انتشر لك رسم يتوقع هذه النهاية، كيف حدث ذلك؟ - كنت أرى أن مبارك سيترك الحكم تحت ضغط الاعتصامات والاحتجاجات الواسعة. ما رسمته كان عبارة عن ساعة كبيرة في داخلها صورة لمبارك، تتآكل أجزاؤها مع مرور الوقت. ما فن الكاريكاتير من وجهة نظرك؟ - أقول ما قاله الفنان الراحل حسن حاكم: «حين يمشي الإنسان على الأرض فهو أمر عادي، تبدأ الدهشة حينما يمشي على الحائط». الكاريكاتير يعتمد على إثارة الدهشة، بكسر المألوف وبخلق تصور مختلف للأشياء. يمكن أن نقول أيضاً إن الكاريكاتير هو إعادة قراءة الواقع في شكل ساخر، وعلى رسام الكاريكاتير أن تكون لديه عين مغايرة لرؤية هذا الواقع. من أكثر رسامي الكاريكاتير تأثيراً في تجربتك؟ - أول علاقة مباشرة لي مع عالم الكاريكاتير كانت من خلال الفنان حجازي. كان يقول كلاماً بسيطاً ولكنه مؤثر إلى درجة كبيرة. أما حسن حاكم، فكان أبرز ما يميز رسومه أنها كانت خالية من التعليق. تعلمت منه أن الثقافة ليست في الكتب، وأن هناك ثقافة بصرية علينا أن نبحث عنها. هو ساعدني على التعبير بالرسم. لو لم أعرفه، فإن إمكاناتي كانت ستصبح أقل. أيهما أهم بالنسبة إلى فنان الكاريكاتير: القراءة أم تعلم الرسم؟ - فنان الكاريكاتير يجب أن يمتلك عيناً ترى الأشياء في شكل مختلف، وينبغي أن يكون لديه تصور ساخر للأمور قبل أن يتعلم الرسم، وعليه أن يتمتع بحنكة في اختيار العناصر التي يعمل عليها. هناك فنان فرنسي اسمه «كوبي» لا يرسم سوى بطتين، إحداهما صغيرة والأخرى كبيرة، ومن خلال حوارهما تنشأ تساؤلات مدهشة. الرسام الذكي هو من يرسم ما يستطيع رسمه ويبتعد عما لا يستطيع. معني ذلك أن إجادة الرسم لا تأتي في المقام الأول عند رسام الكاريكاتير؟ - لا، فالكاريكاتير هو مزيج من الرسم والثقافة، وطاقة مرح، والفنان الذي لا يمتلك طاقة المرح هذه لا يستطيع رسم الكاريكاتير. ماذا تعني بطاقة المرح؟ - تلك الطاقة التي تتجاوز الطاقة الإيجابية في داخلنا. الطاقة الإيجابية تدفع أصحابها إلى أن يكونوا مسالمين. أما طاقة المرح فتدفعك إلى محاولة بث السعادة في نفوس الآخرين. هل تستعين بالكومبيوتر في تنفيذ أعمالك؟ -أنا ألوِّن أعمالي بالكمبيوتر. كنت أقوم بتلوينها من قبل يدوياً، ثم وجدت الكمبيوتر يوفر الوقت والجهد، ويعطي نتائج جيدة أيضاً. الكاريكاتير يعتمد على الفكرة في الأساس، فكيف تأتي إليك الفكرة؟ - أنا أتابع جيداً أعمال الرسامين الآخرين، وأتأمل رسوماتي القديمة، وهي عادة ما تلهمني أفكاراً جديدة، كما أنني أرسم وأمامي السؤال التالي: ماذا بعد؟ لك تجربة في الرسم للأطفال، فما أبعاد تلك التجربة؟ - أول تجربة لي في الرسم للأطفال لم أكن راضياً عنها، فقد كنت أشعر أن رسوماتي خلالها هي أقرب إلى الشكل التجاري ولا تمت إلى عالمي بصلة، لذا توقفت سنوات عن الرسم للأطفال، وقلت لنفسي إنني لا بد أن أرسم شيئاً ذا قيمة أو لا أرسم، إلى أن تعاونت أخيراً مع الصديقة عبير عبد العزيز في مجلة «قطر الندى»، ثم رسمت لها ديوان شعر بعنوان «بيننا سمكة»، كان ضمن القائمة الطويلة في مسابقة الشارقة. ما سر علاقتك الحميمة بالتشكيل وأهله؟ - محاولاتي الأولى في الرسم كانت تشكيلية بالأساس، وأزعم أنها كانت محاولات رديئة للغاية، فأنا لم أتصور يوماً أن أكون فناناً تشكيلياً، لكنني أحب التشكيل وأتابع جيداً المعارض التي تقام في القاهرة، كما أن لي أصدقاء من التشكيليين، توثقت معرفتي بهم عبر تناولي أعمالهم وتجاربهم في رسومي التي أنشرها على صفحات جريدة «القاهرة». أذكر أنني أول ما بدأت أرسم هذه الرسوم كان هناك اعتراض على وجود رسوم كاريكاتورية في صفحة مخصصة لمتابعة الحركة التشكيلية، لكن ذلك سرعان ما تغير بعدما لقي عملي ترحيب الفنانين. كنت أحد منظمي الملتقي الدولي للكاريكاتير الذي أقيم أخيراً في القاهرة، كيف تم الإعداد لهذا الملتقى؟ - ملتقى الكاريكاتير كان حلماً، فلم يكن هناك تواصل مباشر مع رسامي الكاريكاتير خارج مصر. كانت الفكرة في البداية تدور حول ملتقى لفناني الكاريكاتير العرب، ثم تطورت لتشمل رسامين من مختلف أنحاء العالم، وفاق التجاوب معنا في هذا الصدد توقعات اللجنة المنظمة. ما أكثر ما لفت نظرك في أعمال المشاركين؟ - غالبية الأعمال المشاركة كانت ترى مصر في شكل عظيم وإيجابي. يبدو أننا نشعر بوقع الأزمة لأننا نعيش فيها. أما هم فيرون أن هذا البلد قادر على تخطي أي أزمة.