كل الدلائل تشير إلى أن الكاتب السوري نضال جديد في روايته «زيارات آنسة الرسم» الصادرة عن دار التكوين - دمشق، استعان بسيرته الذاتية أو ربما بجزء منها في بناء مضمونها، الذي طغى عليه السرد المسهب، وقد عالج فيها ذكريات مرحلة محددة، صاغها من واقع ارتبطت شخصياته ارتباطاً وثيقاً بالمكان والحالة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، بالإضافة إلى اعتماده عنصر الوصف في تحريك المواقف والشخصيات وتحديد الأماكن. وكل ذلك من خلال شخصية الراوي الرئيس يعقوب، تلميذ البكالوريا المراهق، الذي روى ذاكرته من خلال تجربة طغى عليها الارتباك والاضطراب والفوضوية، وكثير من الظلم، وعبثية المواقف والظروف. أطلّ الكاتب في روايته من منظار أحادي، فتمحورت أحداثها حول يعقوب، الذي روى بضمير المتكلم، تجربة هروبه من مكان إقامته في «جب الملك»، بعد رسوبه في شهادة البكالوريا، وفشله في مواجهة أسرته وبيئته وواقعه. ولعل انهزاميته أمام كرامته المهدورة، طفلاً وغلاماً ومراهقاً، أطاحت بذكائه وشلّت تفكيره، وهو الأمر الذي منعه من البحث عن تبرير مقنع لرسوبه، على رغم اجتهاده وتفوقه باعتراف الجميع. ومن هنا بدأ يعقوب رحلته نحو مرآة الذاكرة، من خلال مواجهة أحداث معينة، لعب أبطالها أدواراً جوهرية حوّلت مسار مستقبله وحياته. وكل محطة من هذه المحطات جعلته يسترجع صوراً قديمة لمراحل عمرية متفاوتة، شهدت تحولات كبيرة أو صغيرة، تركت آثاراً واضحة على سلوكه وتصرفاته وتكوينه النفسي، فكان لها الأثر الأكبر على قراراته المراهقة. فلكل شخص في أي مكان رؤيته، ولكل بيئة غرابتها، كما أن لكل مجتمع خصوصياته، وكل هذا من شأنه أن يكون له تأثير مباشر في بناء الشخصية. مرّت ذكريات السنوات التي قضاها يعقوب في مدرسته سريعةً، بكل ما حملت من ذل ومآسٍ وإهانة أمام عينيه، بالتوافق مع لحظات إعلان المدير نتيجة رسوبه في امتحان البكالوريا، موضحاً: «يبدو أنك لا تصدق... لقد رسبت ولا اسم لك في لائحة الناجحين... يعني رسبت». والجانب المضيء الوحيد من كل تلك الذكريات هي الآنسة أرواد، آنسة الرسم، التي كان يتجاذب معها أحاديث مفتوحة عن الرسم والمسرح، أو مناقشة كتاب، أو خاطرة. وانطلاقاً من كل هذه الأحداث والتحولات السلبية المفاجئة، قرر يعقوب عدم العودة إلى البيت، فبدأ رحلتين: الأولى، هي رحلة الفرار من مواجهة الرسوب (وهي الفكرة الرئيسة للرواية) والثانية، هي سرد القصص والمشاهدات والصور والأحداث، التي مرت به في مراحل معينة من حياته الفتية، بتفاصيلها التي تبدو للقارئ في بداية الرواية، تصويراً واقعياً، وخيالياً واسعاً للكاتب، ولكنها لا تلبث أن تتحول إلى حشو ممل، وهو أمر يجبر القارئ على تجاوز بعض الصفحات أو بعض الفقرات من دون أن يخسر تواصله مع فكرة الرواية الرئيسة. كابد يعقوب عناء الهروب والتخفي واختراع الأكاذيب، كي لا ينكشف أمره. وغرق في ضبابية رسوبه غير المتوقع، فتقاطرت إلى ذهنه الأفكار السوداوية، بكل ما له علاقة بنظرته إلى المستقبل. واضطربت مشاعره، واختلطت أحاسيسه، فعاد إلى تفاصيل علاقته بأسرته بشكل عام، وعلاقته بوالدته وأخته أسيا على وجه الخصوص. بشاعة الحاضر، ولّدت في ذهن يعقوب شحنات من القلق والحيرة، فحثته إلى هروب أبعد في اليوم التالي، بعد أن قضى ليلته الأولى، التي تلت الرسوب في العراء. فقرر أن يرافق سائق الشاحنة الذي تعرّف إليه في دكان «أبو محيو»، والتوجه برفقته إلى اللاذقية، أي إلى المجهول. ثم أكتشف خلال الرحلة، أن المجهول، الذي قرر السفر إليه، كان شبحاً مخيفاً ومرعباً، هزّ كيانه، وجعله يشعر بالاشمئزاز، خصوصاً حين تعرض للتحرش من قبل السائقين المجتمعين لتناول الغداء. ولم تقتصر تجربة يعقوب السيئة على محاولات التحرش، التي تعرض لها من السائقين، وفي ما بعد من السائق الذي سافر معه فحسب، بل تابع مشاهد قاسية غير إنسانية تعرّض لها السائق على ايدي ثلاثة رجال، نزلوا من سيارة سوداء، لها مهابة واضحة، أحاطوا به وبرّحوه ضرباً بلا رحمة، ثمّ تركوه ينزف دماً من جروحه العميقة. وحين سأله يعقوب عن هويتهم، أجابه السائق: «لا أعرف... هيئتهم أولاد دولة. ألم تر المسدسات على خصورهم؟». وانتهت رحلة هروب يعقوب بوصوله إلى بيت خاله في اللاذقية، حيث كانت والدته في انتظاره وسرعان ما عادت به إلى البيت. عاد الكاتب في نهاية الرواية إلى العنوان «زيارات آنسة الرسم»، بعد أن قرر يعقوب أنه لن يعود إلى المدرسة، وأحرق الكتب وكل ما له علاقة بالدراسة. وتكررت زيارات الآنسة أرواد لمساعدته على الخروج من أزمته، فاقترحت عليه أن يكتب تجربة رسوبه! فأعجبته الفكرة - وعلى ما يبدو أنه نفذها في هذه الرواية - وهنا ظهر العنصر الأنثوي، وكأنه تعويض لكل ما حصل وبلسمة للجراح. ومن جملة الأوصاف الكثيرة، التي أثرى بها الكاتب روايته، وصفه «لكندرة» الآنسة أرواد: «من النادر أن تجد كنادر بهذه الفخامة في منطقتنا... هناك الكنادر المدرّعة، المحشوّة الكعوب، من النوع الذي تلبسه آسيا وسواها... إنما هي... يعلم الله من أين تختار كنادرها». لم يخرج الكاتب في روايته الذاتية المؤلفة من أحد عشر فصلاً، من دائرته المغلقة الضيقة، لأن موضوعها دار حول قضية واحدة، وهو الأمر الذي اضطره إلى الاستطراد في السرد، الذي أضعف عنصر التشويق فيها. وكذلك المبالغة في الوصف، والإطالة في الحوارات الداخلية، التي طغت عليها الخيبات، بالإضافة إلى التفاصيل المكانية. وكل ذلك ارتبط بقليل من حاضر الرواية وكثير من الذاكرة.