صوت يخترق ظلاماً تشوبه زرقة، لا هو بالشفق ولا بقلب الليل، يخبر أهل تونس أنهم أصبحوا أحراراً. يناجي صاحب الصوت ذاته، ويدعو للشهداء بالرحمة، وفي تضاعيف الصوت لوعة وفرح قلق، جاء على غير توقع. مشهد بثّته، ولا تزال، قناة تلفزيونية، بعد أن دخل أهل تونس إلى عهد جديد. الذي يزور تونس، اليوم، يحمل معه صورة الزرقة التي يتداخل فيها الليل والنهار، ويعطفها على محمد البوعزيزي، الكادح الهامشي الذي أشعل النار في ذاته وأشعل «ثورة الياسمين»، بلغة الغربيين، أو «ثورة الصبّار» بلغة بعض مثقفي المناطق التونسية المهمّشة. يدفع «الطابع المفاجئ للثورة»، كما يقول المؤرخ الهادي التيمومي، الزائر إلى تأمل وجوه البشر محاولاً، بصمت، أن يقرأ علاقة غامضة بين إيقاظ التاريخ وقامات بسيطة مجهولة الأسماء. كانت ندوة «أسئلة الثورات العربية»، التي دعت إليها «الجمعية العربية لعلم الاجتماع»، وعقدت في الحمامات/ تونس 18 – 20 من الشهر الماضي، مناسبة، للنظر إلى «تونسالجديدة» في عيون المضطهدين الذين ينصرون أنفسهم، وفي خطاب مثقفين يتفقون في الهدف، ويختلفون في الدروب المفضية إليه. كل شيء بدأ بصيغة الجمع: الثورات والبلدان والأسئلة، وتلك التوقعات المتداخلة. تظهر صيغة الجمع في الندوة أو في «الملتقى الواحد والعشرين لأجيال علماء الاجتماع العرب»، وتظهر واضحة أكثر في فضاء الاجتماع المحتشد بالاجتهاد والتساؤلات. فإضافة إلى قضايا البلد المضيف، الذي لا هو بالياسمين ولا بالصبّار، هناك لبنان الذي يحمل معه أسئلة طائفية لا تشيخ، والجزائر المتطلّعة إلى التغيير والمحاصرة بأكثر من خوف، ومصر وثورة الشباب وسطوة الأموات الذين يعبثون بالأحياء، وليبيا التي انتقلت من مملكة إلى جمهورية فقبيلة مسلّحة يقودها أولاد «السيد العقيد»، وفلسطين التي كانت لها ثوراتها وانتهت إلى «حكومتين متنافستين» تنتظران موازنة من الخارج، ... قد لا يكون في التوصيف ما يلبي فكراً متفائلاً، لكنّ فيه بعداً يفيض على التفاؤل والتشاؤم، يتمثّل في مساءلة حراك شعبي أنهى عبارة: الاستثنائية العربية، التي رأت الديموقراطية في كل مكان ورمت بالعالم العربي خارجاً. أضاف الملتقى الجديد ل «الجمعية العربية لعلم الاجتماع» موضوعاً جديداً إلى مواضيعه السابقة. كان عالم الاجتماع، يدور في مجال المتاح: المناهج وقضايا الشباب والآخر وثقافة العولمة ودور الجامعة،... لم يكن يسأل إلا ما لديه، أو ما سمح له بمساءلته، إلى أن جاء «الحدث»، الذي جعل المرغوب ممكناً، على مستوى الخطاب والتجربة. جمع «الملتقى» بين فضيلة المبادرة والمثابرة، فبعد الملتقى العشرين يعقبه آخر، وفضيلة المساءلة النظرية الجادة، التي تدع «عالم الاجتماع المطمئن» في مكانه، وتتوجه إلى آخر يقتفي آثار المتظاهرين أو يكون معهم. تتكشّف صيغة الجمع بين البلدان التي يتحدّث عنها المداخلون، وفي صفة: «الأجيال»، التي تحيل على الوجه وأساليب الكلام ومساحة التجربة. ما هي تخوم صراع الأجيال، الذي لا بدّ منه، في لقاء يختصر الأعمار إلى زمن الثورة، الذي هو مزيج من الطفولة والبراءة، كما قال فالتر بنيامين، يحاول استعادة زمن لا إثم فيه. كان بين الحاضرين المصري الثمانيني حلمي شعراوي، الذي وصفه الطاهر لبيب بالمثقف التراجيدي، فقد اقتفى منذ شبابه الأول آثار حلم مراوغ، وإلى جانبه حفيدته، الدكتورة في علم الاجتماع والسائرة وراء حلم سار وراءه جدّها، والتونسي محسن بوعزيزي، الأربعيني الدائب الحركة الذي وضع كتاباً رائداً عن «سيميولوجيا تونس»، واللبنانية غيدا ضاهر المنتمية إلى شباب متمرّد يدعو إلى دولة متحررة من الطائفية. قد يسعد الفكر متابعة حوار بين عالم اجتماع اكتهل، أوكل إلى «المادية الجدلية» تحقيق أحلامه ذات مرة، وعالم اجتماع لم يبلغ الثلاثين (أحمد بدر محمد) اشتق حلمه من ذاته ومن ثقافة الإنترنت. كان لحضور الطفلة «لينا»، التي لم تضجرها لغة المثقفين، بعد رمزي، فهي البراءة التي تساكنها الثورة، وإشارة إلى تجاور الأجيال الحالمة الذي يستدعي التأمل والمقارنة، ويضيف إليهما أقساطاً من الموادعة والمؤانسة. فحوار الحالمين، مهما تكن أعمارهم، مؤانسة تروّض الخصام، ومدخل إلى حوار مبكّر بين الأحياء والأموات، وشهادة على حميم إنساني لا ينطفئ، كما أشار فلسطيني لمّاح يدعى: عبد الرحيم الشيخ، وفلسطيني آخر يستأنس بغسان كنفاني ويحتفظ بغضبه هو محمد فرحات. ما هي مصائر الثورات؟ يسأل علماء الاجتماع العرب في مكان محوّط بالخضرة، وإلى أين يذهب الشهداء يسأل الفلسطينيون؟ والجواب في ذاكرة أو ذواكر، والجواب في بشر يكرهون الظلام، يجمعون بين اعتدال العقل ودفء القلب. ولصيغة الجمع شكل آخر يتكئ على اختلاف التجارب: فصورة مصر لدى شبابها تختلف عن حال لبنان عند اللبنانيين، وليبيا في مساحتها الشاسعة تغاير تونس التي ظهر فيها أول دستور حديث في العالمين العربي والإسلامي، وعرفت الاتحاد العام للشغل منذ 1924، كما تتمتع المرأة فيها بحقوق ليس لها مثيل في أي بلد عربي أو إسلامي. ليس سؤال الثورة، أو ما هو قريب منه، إلا سؤال ما قبل الثورة، حال الواقعية في الأدب التي تحاور مرحلة ما قبل الواقعية. لا غرابة في أن تحتشد الندوة بمقاربات كثيرة: الطاهر لبيب السائل المتسائل المتحرر من اللغة الجاهزة، القائل بالثورة وبوجوب القطع الثوري، والحريص على سؤال مؤجل الجواب: بأي معرفة نتناول ثورة لا تزال جارية؟ ومحمد الحدّاد الواقف أمام القائم والمحتمل وما اعتاد الثوريون أن يهجسوا به: ثقافة منجزة أم للإنجاز؟ وهل الوقائع الثورية معطاة مسبقاً أم أنها قيد إعداد لا ينتهي؟ والتونسي الثالث صلاح الدين الجورشي، الذي يقرأ الثورة بلغة المفاهيم لا بصخب العواطف، والجزائري عروس الزبير المشغول بما يتقدّم وما يتراجع في «الزمن الثوري» الذي عوقب في بلاده أكثر من مرة، واللبناني سعود المولى الباحث هادئاً عن الفرق بين جديد الواقع وتعاليم الكتب... وهناك ما يأتي به الباحثون الشباب مستندين إلى تجاربهم الميدانية، وعلى كلمة بسيطة كرهها الطغاة: «فايسبوك». وكان للباحثين الشباب حضورهم الكثيف، شهادة على زمن يختلف عن سابقه. وللفلسطينيين، في هذا المجال، حقهم في الكلام، حتى لو كان زمنهم ضنيناً، فقد كانت لهم انتفاضة كبيرة - 1987 - لم تأت بحصاد كبير. لذا يدفعهم الفارق بين المتوقع والمتبقي إلى قراءة انتفاضات الآخرين بخبرة فلسطينية، لم تكن دائماً متماسكة الأطراف. ولهذا استدعى عبدالرحيم الشيخ الفلسفة والأدب ونباهته الذاتية وتأمل معنى الهزيمة، التي تقسم الإنسان إلى ما قبل وما بعد، واستجمع محمد فرحات قلقه النقدي، وعالج التغيير والإحباط. ونسج الطرفان حديثاً عن الإرادة والتمرّد وذلك المتبقي الذي يعبث بالمتمرّدين. لازم موضوع «علماء الاجتماع وأسئلة الثورات» موضوعاً يسبقه ويليه في آن: المثقف والثورة، أو المثقف وأسئلة الثورات، بلغة الطاهر لبيب، الرئيس الشرفي للجمعية العربية لعلم الاجتماع. فالمثقف النقدي، كما يدل عليه تاريخه، يرى العالم كما يجب أن يكون، ويطلب من الثورات أن تحترم المفاهيم، ويضيف إلى الثورات نقاء مرغوباً ويبعد عنها ما يلوّث البراءة. وعلى «طائر الرعد» أن يكون هناك، وأن يعلن جناحاه الشاسعان عن مجيء عاصفة مزهرة. تراءى شيء من خفقان الأجنحة في قصيدة الشاعر التونسي «أولاد أحمد»: الثورة باعتبارها قصيدة، وفي اجتهاد الباحثين الشباب، الموثق بالصوت والصورة، وبلغة بسيطة جميلة الوضوح، حال المغربي زهير البحيري، على سبيل المثال، في ورقته واللبنانية هنادي حسون في بحثها. وكان لمحسن بوعزيزي، «رئيس جمعية علم الاجتماع»، وجوده الذي جعله حاضراً في مكانين ويسهر على أحوال المدعوين في مكان ثالث، منفتحاً على المعرفة والحياة والأمل. تحدّث، وليس بلسانه فقط، عن «لغة الجدران»، حيث الجدار امتداد للشارع والشارع امتداد لأصوات الثائرين وأقلامهم ورغباتهم. في رسم أول على جدار يبدو «الفرعون» متجهماً غاضباً، وفي صورة تليها إلى الأسفل يظهر وقد ارتخى وجهه، وفي ثالثة، إلى الأسفل أيضاً، تتداخل عيناه، وفي نهاية الجدار تظل منه جبهة مشروخة والمنفى الذي ينتظره. الجدار في زمن الثورة دفتر، ومجموع الجدران كتاب محتشد بالغضب والأماني، ينطق بما يريده شعب تونسي كسر الصمت. وما يوجع الروح أن الكتب معرّضة للاحتراق، حال أعمار البشر. إن كان في أعمال الندوة ما يفيد العقل ويرضي فضوله، فإن في أحوال المشاركين في الندوة ما يرضي أرواحاً زهدت بالجفاف وتقنين الكلام. مع ذلك فإنه رضا مشوب بقلق يتاخم العذاب، وهو ما لمّح إليه مثقف رهيف يميل إلى الهدوء (محسن الخوني)، ذلك أن ما يأتي يكون ناقصاً وعصيّاً، غالباً، على التكامل. ما المقصود بجملة ردّدها محسن بوعزيزي في شكل إيقاعي أقرب إلى الغناء: إن أحببنا إنساناً عذّبناه؟ كان يردّد الجملة ناظراً إلى لافتات كثيرة تملأ الشوارع تعلن عن أحزاب معروفة وأخرى في طريقها إلى الولادة. قصد، ربما، عذاب الانتظار وعذابات المواجهة والتأهب، وعذاب التوقع. يتوسط العذاب، في صيغة الجمع، إنسان يحلم بالأفضل، ويرغب بأن يكون الأفضل الذي جاء قادراً على الوقوف. يسأل المؤرخ التونسي الهادي التيمومي في نهاية دراسته: تونس في التاريخ من جديد. 14 (جانفي) 2011: هل ستنجح تونس في إرساء نظام ديموقراطي متناسب مع طبيعة العصر ومع القيم الكونية ومع ما هو نيّر من الإرث التاريخي التونسي؟ ينطبق السؤال على البلد العربي الذي أشعل «ثورة الياسمين» وعلى بلدان عربية أخرى مرّ فيها ما يشبه الربيع. وللسؤال جواب مستتر في مقبل الأيام، فلو كان الجواب معروفاً لما طرحه مؤرخ نبيه. تبقى من الندوة أشياء كثيرة: المثقف المسؤول وإيقاظ الفضول المعرفي، ونقد الثقافة الكتبية بأسئلة من الحياة، والعلاقة المعقّدة بين أحلام المثقف وهواجس المغلوبين، وتبقى منها سلالم الأمل، الضاربة في أعماق الأرض والصاعدة إلى السماء، التي تسلقها ويتسلقها أعداد من المتمرّدين لا تنتهي. وتظل من الندوة أيضاً طفلة توزّع الأوراق والأقلام والأمل تدعى لينا، وتلك الجملة الغامضة التي تلامس التصوّف: «إن أحببنا إنساناً عذّبناه». ما العلاقة بين المحبة والعذاب؟