استكملت الولاياتالمتحدة بناء ملفها القديم-الجديد ضد سورية ونظامها السياسي، وهو ملف عمره من عمر الأزمات والصراع في الشرق الأوسط وعليه. طوال السنوات الطويلة السابقة كانت دمشق في قلب هذا الصراع، بعدما استطاع الأسد الأب تحويلها إلى لاعب أساسي في الإقليم، خصوصاً بعد «استقالة مصر الطوعية» من دورها وتحولها إلى صدى للسياسة الأميركية، وبعد محاصرة العراق وشل قوته العسكرية والسياسية والاقتصادية. الواقع أن واشنطن لم تستطع طوال المرحلة السابقة، سواء في عهد الأسد الأب أو الابن، اختراق التحالفات السورية الإقليمية مع إيران وتركيا، اللتين وجدتا في دمشق بوابتهما للدخول إلى قلب العالم العربي. ولم تستطع أيضاً التأثير في الرأي العام السوري الذي كان متمسكاً بطروحات نظامه المعادية لإسرائيل وحلفائها. على المستوى العربي، كان النظام السوري إلى ما قبل الاحتجاجات الأخيرة، يتمتع بموقع متقدم وتحالفات يعتمد عليها في اي مواجهة يخوضها. هذه التحالفات الخارجية والاستقرار الداخلي أتاحت لدمشق أن تجتاز أزمات كثيرة، منها حربا الخليج الأولى والثانية، والحرب على العراق، وانسحاب جيشها من لبنان عام 2005، والعدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006... لكن هذه النجاحات بقيت في إطار «البراعة» السورية في إدارة الأزمات السياسية، ولم تسفر عن اي انفراج في العلاقة مع الغرب عموماً ومع الولاياتالمتحدة خصوصاً، التي لم تتوان عن اصطياد أي فرصة، صغيرة أو كبيرة، للإيقاع بالنظام وشيطنته، كما أنها لم تؤد إلى انفراج حقيقي في العلاقة مع الداخل، بإفساح المجال أمام مزيد من الحريات. وبقي النظام تحت المجهر الأميركي، خصوصاً لجهة علاقاته مع إيران و «حزب الله» و «حماس». واشنطن وحلفاؤها راهنوا على أن تكون علاقات الأسد مع أنقرة تعويضاً له عن العلاقة مع طهران، لكنه كان ينظر إلى هذه المبادلة «العينية» نظرة أخرى، كان لديه طموح في أن يحتفظ بالعلاقة مع الدولتين وتوسيع ذلك إلى فتح البحار الأربعة بعضها على بعض، وعزل إسرائيل وحلفائها، وأن يصبح شريكاً اساسياً في رسم السياسات الدولية والإقليمية. هو حلم أموي بالعودة إلى التمدد شرقاً التقى مع حلم تركي بالعودة إلى أيام السلطنة العثمانية، لكنه لم يدم طويلاً. هذا الحلم غير مسموح به، الانفتاح على إيران عبر العراق خط أحمر لا يسمح به الغرب، لأنه يقلب كل المعادلات الإستراتيجية في الشرق الأوسط كله. هذا هو السبب الأساس لمعاداة سورية، سواء كان نظامها بقيادة الأسد أو غيره. أما بناء الملف، أو مضبطة الاتهام ضد الرئيس، فليست في حاجة إلى الكلام في الإستراتيجيات الكبرى، كان يكفي أن يتظاهر سوريون مطالبين بالإصلاح والحرية ثم بإسقاط النظام، حتى ينبري الغرب و «الشرق» لتبني مطالب المتظاهرين ودعمهم إعلامياً، ولا بأس ببعض الأسلحة أيضاً، كي تصبح المواجهات دموية ويغرق النظام والشعب في دورة عنف طويلة الأمد، ثم تشكيل قيادة معارضة للاتصال ب «المجتمع الدولي» (اقرأ الولاياتالمتحدة) لتحضيرها سياسياً وإملاء الشروط عليها لتصبح بديلاً للنظام، بعد فشل الرهان على انشقاق في الجيش أو في القيادة السياسية أو الحزبية. فضلاً عن ذلك، تريثت الولاياتالمتحدة شهوراً كي تطالب الأسد بالرحيل، ليس لأنها كانت تنتظر منه إجراء إصلاحات، فهذا آخر همها، بل لإنهاكه وتشكيل جبهة من الحلفاء كي لا تكون وحيدة في المواجهة. وبعد أن تم لها ذلك، دولياً بترديد صدى صوتها في أوروبا والعالم العربي وتركيا، طالبته بالرحيل. ستطول مرحلة استنزاف النظام السوري واستنزاف سورية معه، وقد حققت الولاياتالمتحدة بعضاً مما تسعى إليه من دون حرب، شكلت تحالفاً دولياً وإقليمياً معادياً لدمشق لإغراق سورية بمشاكلها الداخلية وإبعادها عن التأثير في محيطها، وليس مهماً أن يسقط النظام أو يبقى غارقاً في عزلته. هذا هو هدف العقوبات.