قد يشوب حملة رموز الحزب الجمهوري على السياسة الخارجية للرئيس الديموقراطي باراك أوباما التبعثر في المزايدات، لكن تجاهلها أو التعامل معها بفوقية نكهة الإنجاز في ليبيا سيكلف أوباما غالياً لا سيما إذا تقاعس في الحسم في سورية وأعطى إيران و «حزب الله» في لبنان منفذاً لهما وللنظام في دمشق. أوروبا شريك للولايات المتحدة في التحالف الجديد الذي يخيف إيران ويضم دولاً عربية فاعلة مثل دول مجلس التعاون الخليجي الى جانب تركيا، عضو حلف شمال الأطلسي (الناتو). إنما هناك الكثير من الاختلاف بين المواقف الأميركية والمواقف الأوروبية لأن المصالح مختلفة ولأن ديناميكية العلاقة الأوروبية مع دول المنطقة مختلفة عن ديناميكية العلاقة الأميركية. فإذا كان لباراك أوباما ألاّ يقع في حفرة هنا أو فخ هناك، عليه التنبّه الفائق لمعادلة العلاقة الأميركية – الأوروبية مع إيران والبدء فوراً بالتفكير في ما يتطلبه التعامل مع لبنان في المرحلة الراهنة، من الآن الى حين زوال النظام في دمشق، إما بتغييره أو بانفتاحه الجذري أو بالانقلاب عليه. وثانياً، التعمق بالتفكير في نوعية وجغرافيا الانتقام الإيراني من الخسارة الفادحة له المتمثلة في زوال حليف في دمشق كان مركزياً في طموحات نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية. واضح أن لبنان كان بالأمس القريب بالكاد على رادار الإدارة الأميركية، لكنه اليوم، في أعقاب اليقظة الشعبية في سورية، بات تحت المجهر. والسبب ليس فقط العلاقة الثلاثية التحالفية بين نظام بشار الأسد في دمشق ونظام الملالي في طهران ونظام «حزب الله» في لبنان، ولا إسرائيل التي تشكل عنصراً رئيسياً في السياسة الأميركية المحلية والإقليمية والدولية. السبب هو الجغرافيا السياسية التي تجعل من لبنان بنوعية حكومته اليوم رئة لإيران ورئة للنظام في دمشق. إدارة أوباما أقرّت أخيراً بأنه مهما فرضت ثنائياً أو جماعياً عبر الأممالمتحدة من عقوبات على رموز النظام في دمشقوطهران، فمعظم ذلك لن يجدي طالما أن للنظامين السوري والإيراني رئتين يتنفسان من خلالهما عبر لبنان. وبالتالي، أقرّت الإدارة الأميركية أن لبنان هو العنصر الحاسم في إتمام المهمة – مهمة إغلاق أنابيب الأوكسيجين الممتدة الى الرئتين في دمشقوطهران. وهذا يتطلب إجراءات عبر عقوبات لا تنحصر في سورية وإيران وإنما تمتد الى أركان الحكم في لبنان. العقوبات التي يتم تدارسها بعيداً عن الأضواء لا تقتصر على قطاع المصارف والتأهب لمكافحة تبييض الأموال والاتجار بالمخدرات وعلاقة ذلك بالإرهاب، ولا تطاول فقط أفراداً في شراكات وشركات داخل وخارج لبنان وبالذات مع رموز النظام في سورية. إن العقوبات التي دخلت الذهن الأميركي والأوروبي أيضاً تصب في خانة ضرب البنية التحتية للرئتين لدمشقوطهران بدءاً بمطار لبنان الذي يسيطر عليه «حزب الله». باراك أوباما لا يريد أن يكرر نموذج ليبيا في سورية عبر عمليات قصف جوي يقوم بها حلف الناتو، وهو يخشى حتى دوراً غير مباشر لحلف الناتو عبر عمليات برية، فهو لا يريد «الأحذية العسكرية الأميركية» على الأرض لا سيما في مرحلة انتخابية. لذلك، إن سد الرئتين للنظامين السوري والإيراني في لبنان مُغرٍ جداً لا سيما وأنه ينجز أمرين آخرين معاً هما، تضييق الخناق على «حزب الله» وفسح فرصة تنفس طبيعي للبنان. فإذا كان مطار لبنان مدرج إقلاع للعمليات اللاقانونية على مختلف الأصعدة، فتضييق الخناق عليه بعقوبات متراكمة يقيّد أيدي التحالف الثلاثي بين نظامي دمشقوطهران و «حزب الله» في لبنان. الأدوات كثيرة إن كانت أميركية حصراً أو أميركية – أوروبية ولا تحتاج الى قرارات دولية. إنها أدوات فاعلة تكبّل التجارة الحرة غير المنتظمة عبر المطار وغيره بما يسحب البساط من تحت أقدام الحلف الثلاثي بلا حاجة لعمليات عسكرية. إنها عملية تضييق الخناق على إيران وسورية عبر لبنان يمكن أن تتفق عليها الإدارة الأميركية مع الحكومات الأوروبية، ويمكن لها أن تطبقها بمفردها إذا بدت ملامح التلكؤ أو الاختلاف على بعض القيادات الأوروبية نظراً لعلاقاتها المختلفة مع كل من إيران و «حزب الله». فالتحالف القائم اليوم بين الولاياتالمتحدة وأوروبا في الشأن الليبي لا يمحو واقع الاختلاف في نوعية وديناميكية العلاقة الأوروبية مع إيران و «حزب الله» عن العلاقة الأميركية معهما، وبالتالي مع سورية. و «حزب الله» ليس على قائمة الإرهاب في أوروبا كما هو في الولاياتالمتحدة. وللأوروبيين علاقات خفية مع إيران. بالأمس القريب كانت فرنسا عرّاب فك العزلة عن النظام في دمشق - بقرار من الرئيس نيكولا ساركوزي – بغض النظر عن أسباب فرض العزلة أساساً بمساهمة جذرية من سلفه جاك شيراك بسبب أدوار سورية في لبنان بما فيها الاغتيالات السياسية. إذاً، إن الولاياتالمتحدة في حاجة الى سياسة تصوغها لنفسها لما بعد فترة الحماسة للشراكة الأميركية – الأوروبية الراهنة، لا سيما أن الأوروبيين لا ينظرون الى الأمور بالمنظار الأميركي، والعكس بالعكس، الى إيران وامتدادها في سورية أو لبنان. دول مجلس التعاون الخليجي شريك حلف شمال الأطلسي (الناتو) في الزواج المؤاتي، marriage of convenience تنظر الى العنصر الإيراني في أعقاب زوال النظام السوري من وجهة نظر مختلفة تماماً. إنها تهيأ لقيام إيران بعمليات انتقامية عبر «حزب الله» وعبر ميليشات تابعة لها، ليس ضد إسرائيل، وإنما في الدول الخليجية العربية. ما صدر أخيراً عن وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي من دعوة بشار الأسد الى تلبية المطالب «المشروعة» للشعب السوري يكاد يكون مبادرة من رجل أكاديمي أراد أن يكون المصلح لكنه «ليس من المطبخ» بحسب تعبير خليجي مطلع. فهذا الكلام بقي لرجل واحد لا نفوذ له ولم تكن له إفرازات أو صدى لا في أركان الحكم في إيران ولا عبر الأبواق اللبنانية. فلا حليف لسورية الأسد اليوم سوى إيران و «حزب الله» بعدما نجحت أوروبا والولاياتالمتحدة بعزله إقليمياً ودولياً عبر استنزافه بالعقوبات والتطويق، وعبر التحالف مع دول مجلس التعاون الخليجي، ثم – وإن كان متأخراً – عبر موقف لجامعة الدول العربية وعرض لزيارة وفد منها الى دمشق لقي الرفض من النظام السوري. حتى تحالف روسيا مع نظام الأسد هو تحالف موقت – على رغم كلفة هذا التحالف العابر بأرواح الشعب السوري. فمصالح روسيا مع الغرب أكبر من مصالحها مع النظام في دمشق. والقيادة الروسية ستفعل ما سبق أن فعلته عندما ارتأت أن ذلك في مصلحتها – أي اللف والدوران تراجعاً. وهذا سيحدث قريباً بذريعة أو أخرى. إيران لن تفعل ذلك. نظام الجمهورية الإسلامية يدرك أنه إذا خسر سورية فإن ذلك سيسبب له انتكاسة كبرى وسيقرر التعويض عنها. إنه يخشى التحالف الجديد الذي يضم دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا وسورية مع أوروبا والولاياتالمتحدة، لكنه لن يجلس في الزاوية. ما تتوقعه دول مجلس التعاون الخليجي هو أن يتحول النظام في إيران بعد سقوط حليفه في دمشق الى «نمر مجروح» فيتأهب للانتقام. إنما الانتقام، بحسب توقعات هذه الدول، لن يكون في لبنان على الحدود مع إسرائيل باستخدام ورقة «حزب الله» هناك. إنه سيكون عبر تفعيل ورقة «حزب الله» وورقة ميليشيات في العراق وغيره داخل منطقة دول مجلس التعاون الخليجي عبر عمليات تخريب وترهيب لضرب الاستقرار. أي إن «حزب الله»، بحسب هذا الرأي، سيتحول الى عامل ضرب استقرار وتشويش على الصعيد الإقليمي وليس على الصعيد اللبناني، لأن موقع إسرائيل على الحدود اللبنانية سيؤدي الى لجم «حزب الله» وإيران معاً. دول الخليج ستحاول أن تبتعد عن محاور الإيديولوجية والأحزاب وهي تعتقد أن «حزب الله» ما بعد سقوط النظام في سورية سيكون هادئاً في لبنان وصاخباً في منطقة الخليج لحساب إيران. هنا أيضاً يطل ظل الاختلاف بين المواقف الأميركية والأوروبية. وما تعمل عليه الدول الخليجية هو إيصال رسالة واضحة الى الإدارة الأميركية فحواها أنه ما لم تتحد الصفوف الأميركية والأوروبية في مواجهة جدية مع إيران، فإن أوراق التخريب والتدمير ستطاول تلك المنطقة المهمة بمواردها، وستطاول معها المصالح الأميركية والأوروبية معاً. لكل هذه الأسباب، إن موضوع السياسة الخارجية للولايات المتحدة لا يمكن أن يكون مبارزة لغوية ما بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي في مثل هذه المرحلة الحاسمة لمنطقة الشرق الأوسط. إنه موضوع يستحق منتهى الجدية.