تتهافت الصّحف والمجلات على تلقّف ما يريده المُعلنون، فهذا يُعلن عن منتجٍ، وذاك يُنادي لنشر دعاية، وثالث يدعو إلى تهنئة أو تبريك، وغير ذلك من الدّوافع الإعلانيّة الأخرى! وكلّ هذا لا يبدو وجه الاعتراض عليه قائماً، ولا يطاوله نقد أو اعتراض من أيّة جهة من الجهات، بل هو محل قبول وتنافس. غير أنّ ما يستحقّ التّوقّف عنده هو الإعلان عن «التّعزية»، والإعلان عن خبر وفاة، ومكان العزاء، وما لحق هذا النّوع من الإعلان من آراء متباينة. ونقطة التّوقّف تحتلّها المؤسّسة الدينيّة، اذ إن لها رأياً واضحاً وصريحاً حول نشر التّعازي في الصُّحف. فقد ورد في كتاب «فتاوى علماء البلد الحرام» ص 1056 سؤال يقول: «تُنشر على مساحات كبيرة في بعض الصّحف تعاز لبعض النّاس في وفاة أقربائهم، وأحيانًا تكون الكتابة بلون أبيض على صفحات سوداء، وأحياناً بعض العبارات فقط، فما حكم هذا العمل؟»، وكانت الإجابة من - أحد أعضاء هيئة كبار العلماء - على النّحو الآتي: «التّعزية لأهل الميّت بالدّعاء لهم ولميّتهم مشروعة إذا كانت في حدود الوارد عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بأن يقول لأخيه المُصاب إذا لقيه: أحسن الله عزاءك، وجبر الله مصيبتك، وغفر لميّتك، وإذا كان بعيداً عنه وكتب له خطاباً ضمّنه هذه التّعزية، فلا بأس بذلك. أمّا الإعلان في الصّحف عن وفاة الميّت فلا داعي له إلّا إذا كان القصد منه الإعلام بوفاته، من أجل أن يقوم من له عليه حقوق لاستيفائها، أو من أجل بيان مكان الصّلاة على جنازته من أجل الحضور لذلك، أمّا إذا كان من أجل الإشادة والمدح، فهذا لا ينبغي، لأنّه قد يُفضي إلى المُبالغة والإطراء، وأيضاً هنا العمل يستدعي تكاليف ماليّة تُدفع للصحيفة في مُقابل الإعلان، وهو عمل تترتّب عليه فائدة، وكذا لا يُشرع الإعلان عن مكان العزاء، ولا إقامة حفلات وولائم. قال جرير بن عبدالله رضي الله عنه: «كُنَّا نرى الاجتماع إلى أهل الميّت وصَنْعَةَ الطّعام من النّياحة» انتهى. وبعد فهذه هي الفتوى، وهذه مُبرّراتها، كما يلاحظ القارئ فإنّ الواقع والممارسات التّطبيقيّة تجري بما لا تشتهي الفتوى! ومثل هذه التّناقضات والتّباين تُؤدِّي إلى انشطار المجتمع، وتمزّق طقوسه الحياتيّة. إنّ القلم هنا لا يطرح كلاماً يُفضي إلى تكميم الآراء أو تكتيف الأحكام، فكلّ نفس بما كسبت وما أفتت وما قالت بصيرة، وإنّما المُؤمّل ألا تكون المؤسّسة الدّينيّة في جانب، والمجتمع في الجانب الآخر من رصيف الحياة، فإنّ ذلك من شأنه أو يوسّع المسافة بين الشّاطئين من دون جسور التّلاقي! إنّ فقهاً معاصراً يجب أن يُولد مع بدايات القرن الواحد والعشرين، إذ من غير اللائق أو المعقول أن تبقى الفجوة بين المؤسّسة الدّينيّة والمجتمع تأخذ بالاتّساع يومًا إثر يوم! في النّهاية ماذا بقي؟ بقي الاعتماد على رأي الجماعة وترك آراء الأفراد، لأنّ المصلحة مع الجماعة، والشّقاء مع الأفراد، ألم يقل شاعرهم حافظ إبراهيم: رَأْيُ الجَمَاعَةِ لا تَشْقَى «البِلادُ» بِهِ رَغْمَ الخِلافِ ورَأْيُ الفَرْدِ يُشْقِيها