من المبكر التكهن بما ستفعله تركيا، إذا فشلت مساعيها مع دمشق. من المبكر معرفة الوجهة التي ستسلكها للحفاظ على مصالحها أولاً قبل استجابة نداءات المعارضة السورية، بعدما رفضت واشنطن المهلة التي أعطيت للنظام السوري. فإذا كان الحراك العربي شكّل ويشكّل امتحاناً للسياسة الخارجية لأنقرة. فإن ما يحدث في سورية هو المفصل في توكيد صحة هذه السياسة أو خطئها وتعثرها. والسؤال هل يحتمل رجب طيب أردوغان نكسة كبيرة لمواقفه التي تنتظر نتائجها الولاياتالمتحدة والكثير من البلدان الأوروبية والعربية... نتائج المحادثات التي أجراها وزير خارجيته أحمد داود أوغلو مع الرئيس بشار الأسد؟ الذين يأخذون على تركيا التنسيق مع واشنطن ينسون أنها لا يمكن أن تجازف بترك الدول الكبرى تتفرّد ببناء النظام الإقليمي الجديد. ألم تنفرد تركيا مع البرازيل في محاولة إبعاد سيف العقوبات عن إيران قبل نحو سنة؟ فعلت ذلك للحفاظ على ما بنته من علاقات مع جارتها الجنوبية. فعلت ذلك لأنها تدرك معنى اندلاع مواجهة جديدة في المنطقة وما يمكن أن تلحقه من أضرار بنفوذها السياسي ومصالحها الاقتصادية والتجارية. تكفي نظرة إلى العلاقات النفطية مع إيران لإظهار مدى انخراط أنقرة في سياسة تحويل البلاد إلى الممر الأساس للغاز والنفط الآسيوي نحو أوروبا. ما يعطيها ثقلاً سياسياً. فضلاً عما يجنيه اقتصادها من منافع ومداخيل إضافية. تخطط تركيا لرفع دخلها القومي الذي يقرب اليوم من تريليون دولار، إلى تريليونين مطلع العقد الثالث من هذه الألفية. وهي تلعب دوراً أساسياً كأرض عبور لصادرات الغاز الإيراني إلى أوروبا. وقال أردوغان باكراً من سنوات إن بلاده تعتمد على ما تستورده من إيران وروسيا وسيكون «من المستحيل وقف هذه الواردات من أي من هاتين الدولتين». ولكن على رغم أهمية الجمهورية الإسلامية في المنظومة الاقتصادية لتركيا، لم تخف هذه معارضتها امتلاك طهران سلاحاً نووياً عدته دائماً بمثابة تهديد جدي للأمن في الشرق الأوسط. فضلاً عن أنه يؤهلها لموقع متقدم وراجح في النظام الإقليمي. وفي الإطار نفسه سعت تركيا إلى إقامة منطقة تجارية واحدة مفتوحة بين بلاده وسورية والأردن ولبنان. وكان لذلك تأثيرات إيجابية في اقتصادها، في حين لحق بالاقتصاد السوري وبعض قطاعاته الزراعية والصناعية بعض الأضرار. وجاهد أردوغان ويجاهد لتحويل بلاده نموذجاً ديموقراطياً للعالم الإسلامي، كما لتلبية شروط الاتحاد الأوروبي. لذلك، لا يمكنه أن يتغاضى عما يحصل من أعمال عنف في سورية. لا يمكنه أن يغض الطرف عن الشأن السياسي، في مقابل الحفاظ على مصالح بلاده التجارية والاقتصادية مع سورية وغيرها. لذلك، كان ثمة شيء من الظلم في رد مواقفه في أوائل الحراك السوري إلى دواعٍ انتخابية محلية. ربما استعجل وتقدم كثيراً على الآخرين، عرباً وغربيين. مرد ذلك ربما تردده الذي طبع موقفه الأول من الحراك في ليبيا. دمشق عبّرت عن غضب شديد على المواقف التي اتخذها ويتخذها. عبّرت عن ريبة وشكوك مكبوتة ساورت بعض النخب العربية من «إحياء العثمانية» والعودة إلى إدارة شؤون المنطقة. وهي في محلها وإن تبدلت الظروف والتسميات. بالطبع لا يمكن أنقرة أن تستعيد دور اسطنبول العثماني في سورية أو في غيرها. لكن الذاكرة التركية الجماعية لا تزال حية. كان العثمانيون ينظرون إلى جارتهم الجنوبية الموقع الاستراتيجي الأهم في إمبراطوريتهم. أبدى القادة العسكريون وهم يتراجعون أمام فرنسا وبريطانيا في الحرب العالمية الثانية، حرصاً كبيراً على عدم خسارة سورية، «درة التاج العثماني»، على ما ورد في مذكرات جمال باشا. يومها ترك الوزارة ليقود الجيش الرابع، من بلاد الشام إلى السويس. والهدف منع البريطانيين من العبور إلى القدس أولاً... وللحفاظ على «درة التاج». ويومها كان الصراع... على سورية أيضاً. يرغب حزب العدالة والتنمية في إظهار موقع تركيا الفريد وقيمتها الاستراتيجية للغرب والاتحاد الأوروبي خصوصاً، من خلال ديبلوماسية تسعى لجعل تركيا مركز الاستقرار وسط منطقة تتخبط في شتى أنواع الاضطرابات، من أفغانستان وباكستان والعراق، وصولاً إلى المنطقة العربية كلها. كما أنها تسعى إلى تقديم نموذج يمكنه أن يوائم بين التحديث وقيم المحافظة الإسلامية، بين الغرب والشرق الإسلامي. ولا حاجة إلى التذكير بالسباق والتنافس اللذين خاضتهما تركيا في آسيا الوسطى والبلقان والشرق الأوسط لتوكيد دورها الجديد وموقعها المؤثر. وكانت خسرت بانهيار الاتحاد السوفياتي دورها الرادع لهذه القوة العظمى والركن الجنوبي الأساس لحلف شمال الأطلسي. لا يمكن أردوغان أن يصم آذانه عن أصوات المتظاهرين قرب حدوده مطالبين بالحرية والديموقراطية. يؤمن بلا شك بأنه لولا هذه الديموقراطية والحريات لما وصل إلى السلطة عام 2002 وظل متربعاً على كرسيه بفضلها. فاجأه الحراك في ليبيا. غلب أولاً المصالح الاقتصادية واستثمارات بنحو 15 مليار دولار، والحفاظ على وجود نحو خمسين ألف تركي في قطاع البناء والمنشآت. لكنه سرعان ما التحق بالركب الدولي والعربي. غلب القيم على المصالح. بفضل هذه القيم يواصل حكمه ويواصل معركته مع المؤسسة العسكرية التي تراجعت إلى الثكن نهائياً ربما. وهذا حدث تاريخي بالنسبة إلى مؤسسة كانت تعتبر نفسها، منذ قيام الجمهورية في 1923، الحارس الأمين للنظام، والناظم للسياسة والديموقراطية والعلمانية وكل قوانين التحديث التي تبناها كمال أتاتورك. صحيح أن سورية اليوم هي الجسر الذي لا بد لإيران أن تعبره للوصول إلى المنطقة والمتوسط، إلى لبنان وفلسطين. صحيح أنها خط دفاع أمامي ومحوري في الدفاع عن الوجود الإيراني في العراق. لكن الصحيح أيضاً أن تركيا ترى إلى جارتها الجنوبية جسراً إلى لبنان وفلسطين والأردن وباقي الخليج وحتى مصر. وإذا كانت لم تهضم ما حل ببعض القوى العراقية، وعلى رأسها كتلة «العراقية» بقيادة إياد علاوي، فإنها لا يمكن أن تسلم بأي حال بخسارة هذا الجسر. خسارته تعني خسارة قلب سياستها الخارجية، خصوصاً حيال العالم العربي الذي عبر في غير مناسبة عن مدى حاجته إليها لإقامة حد أدنى من توازن القوة مع إيران، ولمواجهة تمددها في المنطقة. أتبعت تركيا في تعاملها مع إيران حتى الآن نهجاً توسل الكثير من الصبر وطول الأناة. وهي تتبع اليوم مع سورية النهج نفسه. لم يعجبها تخلي دمشق عن موقفها في العراق لمصلحة نوري المالكي في مواجهة إياد علاوي الذي كان يحظى بدعم أنقرة ومعظم العواصم العربية. ولم يعجبها رفض منطوق الوساطة التركية - القطرية لتسوية الوضع الحكومي في لبنان. علماً أن أنقرة لعبت دوراً في التقريب بين السعودية وسورية قبل سنوات. كما لعبت دوراً للتقريب بين سعد الحريري ودمشق. بعد هذه التجربة، لا بد أن ثمة شكوكاً في أن يثمر هذا النهج في تخلي دمشق عن خياراتها الأمنية في مواجهة الحراك. وما يعزز فشل المساعي التركية هو عدم قدرة النظام السوري على التغيير المطلوب والمقبول، في الداخل قبل الخارج. حيال احتمال كهذا ما هي الخيارات المطروحة أمام أردوغان لإنقاذ سياسته التي بنى عليها كل رصيده ورصيد حزبه منذ 2002 وحتى اليوم؟ وما هي الوسائل التي يمتلكها - بعيداً طبعاً من قوة تركيا العسكرية الثانية بعد الولاياتالمتحدة في حلف الناتو - لتغيير مسار الأحداث والتطورات في سورية؟ لن يتأخر هذه المرة كما فعل حيال ليبيا، فالاستراتيجية التركية على المحك.