كان لا بد من أن تقول السعودية شيئاً عن الأحداث في سورية. لم يكن من الطبيعي أن يتماسك الصمت العربي أمام الدماء السورية وهي تُسفك في شكل يومي على يد قوات النظام لأكثر من خمسة أشهر متواصلة منذ بداية الثورة في الشام. في مثل هذا الظرف كان لا بد لدولتين مشرقيتين، هما السعودية ومصر تحديداً، من أن تغادرا ظاهرة الصمت وتحددا موقفهما مما يحدث في سورية. فعلى هاتين الدولتين قبل غيرهما، وقد سقط العراق واضطربت سورية، مسؤولية كبيرة أمام الأحداث الكبيرة التي ظلت تتوالى على المنطقة، وتقترب من ذروتها مع الثورات الشعبية. ربما قيل إن انشغال مصر بتداعيات ثورتها لا يسمح لها باتخاذ موقف معلن ومحدد مما يحدث. لكن الظاهر أن صمت مصر لم تملِه تداعيات الثورة، بل ثقافة ما قبل الثورة. وإلا فإن مصر قبل أي بلد عربي آخر، وانطلاقاً من ثورتها، هي المعنية بأن تتعاطف مع ثوار الشام، وأن ترفع صوتها في وجه انتهاك حرمة الدم على النحو الذي يحدث في هذا البلد العربي. الصمت في مثل هذه الظروف ليس خياراً. هو علامة ضعف وقلة حيلة، لا علامة قوة وفائض خيارات. وهو ليس من نوع صمت الحكمة بقدر ما أنه صمت الخطل وفقدان الرأي، وحنكة السياسة في اللحظات الحرجة، والخيارات الصعبة. في هذا السياق من الصمت العربي المطبق، تبرز أهمية خطاب العاهل السعودي، الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الموجّه إلى سورية شعباً وحكومة. مهما قيل عن السعودية، وعن تأخرها في الإصلاح، أو عن دورها في مرحلة الثورات العربية، كان لا بد لها من أن تقول شيئاً عن أحداث سورية. لم يكن من الجائز أن يكون للسعودية موقف مما حصل ويحصل في اليمن، والبحرين، وليبيا، ثم تلتزم الصمت إزاء ما يحصل في سورية، على أهميتها ومركزيتها. والحقيقة أن السعودية تقع في مركز العين من عاصفة الثورات، والقلاقل العربية: في الشمال هي تجاور العراق، وفي الجنوب اليمن، وفي الشرق البحرين، وفي محاذاة شمال غربي الجزيرة العربية هناك منطقة الشام وهي تمر بمخاضها الصعب والمقلق، وفي الغرب هناك مصر، ثم السودان. ومن ثم، فإن السعودية، كما مصر، معنية قبل غيرها بما يحدث في سورية. بل إن حجم السعودية ووزنها، وموقعها الجغرافي، كما مصر أيضاً، تجعلها مسؤولة أكثر من غيرها عما ستؤول إليه الثورة في سورية تحديداً. ربما أن خطاب الملك جاء متأخراً، وربما أنه لم يتجاوز صرخة إنذار وتحذير للقيادة السورية من الذهاب بعيداً في خيارها الأمني. لكنه حتى في هذا المعنى، وفي إطار صمت عربي مطبق، يعكس موقفاً شجاعاً في لحظة حرجة جداً. من الواضح أنه تمت صياغة الخطاب بعناية فائقة، وعلى قاعدة «المختصر المفيد». وأكثر ما يلفت في الخطاب أمران. الأول أنه لم يكن موجهاً إلى الرئيس، أو القيادة السورية على وجه التسمية والحصر. فقد بدأ الخطاب بعد البسملة هكذا: «إلى أشقائنا في سورية، سورية العروبة والإسلام»، بما يتضمن مناشدة للعمق التاريخي لسورية. وبالتالي كان الخطاب موجهاً الى سورية قيادة وشعباً. وهذه سابقة لها دلالتها، وتحمل اعترافاً مضمراً بالحراك السياسي الذي يحدث، وتضع القيادة إلى جانب الشعب على قدم المساواة، وأن هذا الشعب يمثل الطرف الآخر في ما يحدث. وهذا هو الأمر الثاني. ففي قوله: «فإراقة دماء الأبرياء لأي أسباب ومبررات كانت، لن تجد لها مدخلاً مطمئناً، يستطيع فيه العرب، والمسلمون، والعالم أجمع، أن يروا من خلالها بارقة أمل، إلا بتفعيل الحكمة لدى القيادة السورية، وتصدّيها لدورها التاريخي، في مفترق طرق الله أعلم أين تؤدي إليه»، إشارة إلى أن القيادة السورية لم تتعامل مع الأحداث بالحكمة المطلوبة، وبالتالي فهي المسؤول الأول قبل غيرها عن سفك الدم السوري. ويتأكد هذا المعنى بقول الملك إن «الحدث أكبر من أن تبرره الأسباب...»، في إشارة، كما يبدو، إلى ما تقوله القيادة السورية من أنها تواجه جماعات مسلحة وإرهابيين، مناشداً هذه القيادة بتفعيل إصلاحات شاملة وسريعة. ومع ذلك يبقى خطاب الملك بأهميته وسابقته خطوة في الاتجاه الصحيح، الأمر الذي يفرض أن تعقبه خطوات. المطلوب في نهاية الأمر موقف عربي، لكن تقع على السعودية مسؤولية أكثر من غيرها في هذه الأيام للدفع باتجاه بلورة هذا الموقف. فهي الدولة العربية الكبيرة الوحيدة التي تفادت موجة الثورة، حتى الآن على الأقل، ولها علاقات جيدة ومستقرة إقليمياً ودولياً، تسمح لها بهامش واسع من الحركة. كما أنها تتمتع باستقرار سياسي واضح، يشكل قاعدة انطلاق مناسبة. سيقال وقيل إن السعودية لا يمكنها الاضطلاع بهذا الدور قبل أن تشرع في تطبيق إصلاحات هي في حاجة إليها مثل غيرها. وهذا صحيح. لكن ليس هناك ما يمنع من أن تنطلق في دورها من إصلاحات الداخل، وبما يتوازى مع تحركها الإقليمي المطلوب في هذه المرحلة. في كل الأحوال المطلوب هو بلورة موقف عربي حازم بحماية استقلال سورية من أي تدخل، وحماية قرارها، وخياراتها المستقبلية في إطار تاريخها وإرثها العربي. لكن استقلال سورية بعد الثورة يتطلب الانطلاق عربياً وقبل كل شيء من فرضية أن الشعب أصبح هو الرقم الذي لا يمكن تجاوزه في المعادلة السياسية المستجدة في سورية، وبالتالي استعاد حقه في تقرير مصيره ومستقبله، وأن النظام السياسي فقد هذا الحق، بخاصة في ضوء أنه استخدم قواته المسلحة لقتل المواطنين. وبناء على ذلك، يتطلب الموقف العربي التخلي عن الصمت، ومواجهة الواقع بشجاعة، والانطلاق من فرضية أن النظام السياسي السوري لم يعد جزءاً من مستقبل سورية، بل صار من ماضيها السياسي. بل إن هذا النظام في إطار ثورة تعتمل وتتصاعد على رغم أبشع أساليب القمع والقتل يدفع بسورية نحو «الهاوية»، وهو بذلك صار عبئاً سياسياً ليس فقط على سورية، بل على العرب جميعهم. حماية سورية تتطلب دوراً عربياً فاعلاً. لا يجوز أن تتكرر تجربة الصمت التي التزم بها العرب، بخاصة السعودية ومصر، تجاه عراق صدام حسين. كلنا نعرف الآن أنه بسبب هذا الصمت حصل الغزو العراقي للكويت. تحررت الكويت، لكن الحالة العراقية تفاقمت وتحولت إلى مأزق حقيقي، ومعها تفاقمت حالة الصمت العربي. لم يكن من الممكن عربياً، وتحت ظل النظام العربي، محاربة صدام، أو وضع حد لمغامراته في الداخل والخارج. بسبب سياسة الصمت، لم يكن هناك موقف عربي واضح من سياسات صدام. على العكس، كان هناك انقسام، ومزايدات في كل اتجاه. المأساة أن كل ذلك لم يساعد في منع أميركا من استغلال الحالة المضطربة التي خلقتها سياسات صدام لمحاربته وإسقاطه. هل ساعد الصمت العربي في حصول الاحتلال الأميركي للعراق؟ أم تم استخدامه كغطاء لتواطؤ أميركي - إيراني، ومن ثم لنفوذ إيراني يغذي الطائفية، ويوظفها الآن للإمعان في إضعاف العراق وإبقائه تحت هيمنة طهران من خلال حلفائه؟ لكن، ما هو الفارق في هذه الحالة؟ الواضح الآن أن الصمت العربي ترك الشعب العراقي أعزل تحت رحمة ديكتاتور دموي. وبعد ذلك تركه للاحتلال، وللطائفية، وللنفوذ الإيراني. لم يكن هناك من مبرر مقنع لحالة الصمت تلك، إلا أنها كانت التزاماً أعمى بمقتضيات النظام الرسمي العربي. كان من الواضح أن شرعية صدام قد تآكلت حتى قبل غزو الكويت. استحكمت عزلة النظام في الداخل كما يدل عليه موقف الشعب عندما دخلت الجيوش الأميركية إلى بغداد. لكن ذلك لم يزد الصمت إلا رسوخاً. بعيد الغزو كان صدام وحيداً، انتهى به الأمر أن سقط أسيراً في أيدي الأميركيين، الذين سلّموه الى أعدائه، حلفاء أميركا وإيران. كان مشهداً تراجيدياً استطاعت طهران أن تصل فيه إلى عدوها اللدود من خلال حلفائها العراقيين الذين تحالفوا مع الآلة العسكرية الأميركية. لا شك في أن ذلك حصل لأسباب عدة، لكن الصمت العربي كان أحد أهم هذه الأسباب. المفارقة الضخمة أنه بسبب سياسة الصمت هذه أغلقت «البوابة الشرقية للعالم العربي»، التي طالما استغلها صدام للعبث بأمن العراق، وأمن المنطقة. وفي مكانها شُرّعت بوابة النفوذ الإيراني تحت رايات وشعارات كثيرة. ماذا تقول التجربة العربية في العراق؟ تقول شيئاً واحداً، وهو أن النظام الإقليمي العربي فقد صلاحيته، وأصبح مهترئاً منذ عقود طويلة. صار هذا النظام مدعاة للقمع، والفساد، وعدم الاستقرار، واستدعاء التدخلات الأجنبية. ولا غرابة والحال هذه في أن هذا النظام يحتاج إلى الصمت يحتمي به من عوائد الدهر. بل ربما أن التجربة العراقية كانت أحد أهم العوامل التي فجّرت ثورات الشعوب التي ضاقت ذرعاً بنظام لا يوفر لها الحماية، ولا الكرامة، بل الذل والقمع، والشعارات المفرغة من مضامينها. هل يجوز أن نكرر مأساة حاضرة العباسيين، في عاصمة الأمويين؟ * كاتب وأكاديمي سعودي