يعرف القراء فانسون غيسر من خلال كتاب له صدر عام 2004 بعنوان «الإسلاموفوبيا الجديدة» (نزعة الخوف من الإسلام ومعاداته)، وكان الكتاب الصادر باللغة الفرنسية قد شهد نجاحاً إعلامياً وبيعت منه أكثر من عشر آلاف نسخة وأصبح كاتبه نجماً إعلامياً، لكنه تعرض أيضاً لهجومات حادة من أطراف مختلفة. غيسر عاد إلى الأضواء مجدداً بسبب قضية غريبة جدّاً، وهي تعكس حالة الهلع التي أصيبت بها الأجهزة الأمنية الغربية منذ سلسلة التفجيرات الإرهابية في الولاياتالمتحدة وبعض العواصم الأوروبية، وتؤشر إلى أن الفترة القادمة قد تكشف عن العديد من الانحرافات المثيرة. السيد غيسر يشغل خطة باحث لدى المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا، وهذا المركز قد يكون أكبر مركز بحث حكومي في العالم، يعمل فيه مئات الباحثين المختصين في كل المواضيع التي تخطر على البال، ومنها طبعاً المتعلقة بالإسلام والعالم العربي. غيسر مهدد بالطرد آخر الشهر الحالي بتهمة إفشاء أسرار داخلية لهذا المركز، وقد صعق الباحثون والمثقفون الفرنسيون لهذا الخبر ووقّعت أكثر من 3500 شخصية (إلى حدّ كتابة هذه السطور) على عريضة تطالب بالتراجع عن هذا القرار، وكان من بين الموقعين كتاب مشهورون مثل تودوروف وإدغار موران وجون بيبرو وآلان ديليبرا وباسكال بونيفاس ورشدي راشد. وما اتضح مع هذه القضية هو وجود شخص داخل هيئات المركز يدعى «ضابط الدفاع» وهو ببساطة شخص ينتمي إلى المخابرات أسندت له صلاحية مراقبة كل البحوث التي تنجز في المركز وله القدرة على تعطيل ما يراه منها مخلاًّ بالأمن الوطني. هذا مع أن المركز بحكم الطبيعة الأكاديمية العلنية لأبحاثه لا يهتم عادة بالقضايا الحساسة والأمنية والدفاعية، والبحث الذي جلب المتاعب لغيسر يتعلق بموضوع حضور أساتذة وباحثين ومتعاونين من العالم العربي في الجامعات ومؤسسات البحث الفرنسية. ويتساءل البعض لماذا يهتم غيسر بهذه المواضيع المريبة، فقد سبق وأن وضع جردة لطلبة المغرب العربي الذين درسوا في فرنسا، فهل تمثل هذه الأبحاث فرصة لوضع قائمات للباحثين العرب أو ذوي الأصول العربية مع أن القانون الفرنسي يمنع ذلك؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تؤشر إلى أن قضية السيد غيسر أعقد مما تبدو عليه في الظاهر. لكن ذلك لا ينفي أن الكشف عن وجود «ضابط دفاع» بصفة رسمية في مؤسسة بحث أكاديمية مرموقة لم يكن قابلاً للتصديق، فضلا عن الصلاحية التي منحت له للتدخل في البحوث وشؤون الباحثين الذين يحملون جميعاً الصفة الأكاديمية، ومما أعطى هذه القضية وقعاً خطيراً الشهادة التي قدّمها الباحث المشهور أوليفييه روا، وبعض من كتاباته معرّب وهي تتصل كلها بالعالم الإسلامي، فقد ذكر أنه تعرض في السنة الماضية للتهديد من «ضابط الدفاع» بدعوى تعاطفه مع الإسلام! وبدأت الأصوات ترتفع لتكشف أن سنوات ما بعد 2001 قد شهدت خلطاً خطيراً في الأدوار والحدود بين العمل المخابراتي والعمل الأكاديمي. ولا شك أن نهاية حكم اليمين المحافظ في الولاياتالمتحدة قد حرّر الألسن والأقلام. ومهما يكن من مصير السيد غيسر، الذي استفاد بصفة غير مباشرة من هذا الخلط ليحقق شهرة إعلامية لأعماله الأكاديمية، فإن هذه القضية الخطيرة والغريبة تؤكد إلى أي حدّ أصيبت الأجهزة الأمنية بالهلع نتيجة التفجيرات الإرهابية التي قامت بها جهات إسلامية متشددة، فقد اتضح لها أن المسؤولين عن هذه الأعمال يمكن أن يكونوا من النخبة المثقفة، ولم تكن هذه الأجهزة متهيئة للتعامل مع هذا المعطى، فكان عليها أن تسارع بجمع المعلومات في أسرع وقت، وترتب على ذلك تجاوزات سكت عنها المتضررون بسبب الخوف، لكن قرار غيسر بنشر وقائع ما تعرض له شخصياً سيفتح الباب لاعترافات عديدة أخرى. يؤكد هذا النوع من الوقائع أن اتجاهات الرأي العام لا تتحدّد تلقائياً، فحتى مراكز البحث المرموقة يمكن أن تعمل تحت الضغط الأمني والسياسي. ومن الواضح أن الأجهزة الأمنية قد اعتبرت منذ سنوات مسألة «التعاطف» مع الإسلام مسألة حساسة لكونها قد تدفع إلى رفض بعض الإجراءات التي تعتبرها تلك الأجهزة ضرورية للتوقي من الأخطار الإرهابية، لكن الأمور قد تختلط وتتعقد وتبتعد عن دوافعها الأصلية. ولقد بات من الضروري أن يعود «الموضوع الإسلامي» في مؤسسات البحث إلى حدوده الطبيعية، بصفته موضوع بحث لا موضوع مباحث، فلئن كان صحيحاً أن السنوات الأخيرة قد ضخمت الطلب على الجوانب الأمنية في الموضوع، فإن الموضوع ذاته يتجاوز هذا الجانب بما أنه يرتبط بالتاريخ والحضارة وسوسيولوجيا مجتمعات معقدة التركيب وبمئات الملايين من البشر المختلفي المشارب، فلا يمكن اختزال ذلك كله في الإرهاب. ويظلّ العنصر الدافع للأمل أن البلدان ذات العراقة في الممارسة الديمقراطية وحرية التعبير تنجح، في الأخير، في إعادة الأمور إلى نصابها ولو استمرت الانحرافات بعض الوقت.