كان آباؤنا قديماً يخرسون لجاجتنا بالوعيد والتهديد بقطع اللسان، والضرب المبرح ما لم نمتثل الصمت، فنخاف ونبتلع ألسنتنا، علماء النفس والاجتماع عابوا عليهم هذه الخليقة التربوية المتخلفة، ومن خلال دراسات طويلة متبحرة، أقررنا بتسليم مطلق أن آباءنا رحمهم الله كانوا جائرين، ونحيل ذلك إلى طبيعة الحياة القاسية، ولم ندرك أننا بتلك الأعين المنشطرة على وعيد أصبحنا رجالاً لا نتحدث إلا بقدر حاجتنا، وان تحدثنا فلا نقول إلا بقدر ما تسمح به الرجولة والكرامة والعفة، فهمنا أخيراً أن الحديث الذي يخرج مزرياً بالرجل كان مرده إلى عدم ضبط معرفي وسلوكي، وما كان يخشاه الآباء هو أن يوصَموا بأبنائهم فيلحقوا بهم رذيلة قلة الحياء أو الفحش في الكلام، كان ثمة «مخابيل» رفعت عنهم الأقلام والعصي فلا يُعبأ لكل ما يلقونه من كلام فاحش، وبما أنهم ملحقون بعالم المخابيل فلا يزرون بأهاليهم أو يلحقوا بهم السوء. أذكر أن أحدهم كان يقتعد مفارق الطرقات، فإذا مر به رجل مهيب أخرج له سكيناً من خوص وقال: «اليوم عيد تعال أضحي بك»، أطلقوا عليه كنية «علي الأدرع» ومن أدب الناس أنهم لم يضيفوا إليهم أنسابهم، فلا يقال علي ابن فلان أو آل فلان. دفعاً للأذى مع أنهم كانوا مسالمين، ليس بأيدهم إلا سكاكين خوص وخيول سعف النخيل. أما «مخابيل» هذا الزمان فمدججون بالأسلحة الفتاكة، ومحاطون بعساكر تقعي بين أقدامهم صناديد الرجال سمعاً وطاعة، لكنهم متى نطقوا تلعثمت ألسنتهم وتلجلجت كلماتهم حد النكتة الفجة، ينذرون ويتوعدون بحركات كاريكاتيرية، مما يبعث على الضحك، فهل قادهم الجنون أو بمعنى أصح الخبل لمجازفة وضعتهم على رأس الهرم القيادي؟ أذكر فيما قرأته قديما لأمين هويدي رئيس المخابرات المصرية الأسبق كلاماً أورده في كتاب له(إن لم تخني الذاكرة) تحدث فيه عن أيلول الأسود، وما أعقبه من أحداث، إذ اقترح القذافي القبض على الملك حسين وزجّه في مستشفى المجانين، فما كان من الملك فيصل رحمه إلا أن قال: «هناك من هم أولى منه بمستشفى المجانين»، وهذا ما أثبتته السنوات التالية من سيرة البطل الهمام بدءاً من مؤامراته التي قام بها وانتهاءً بذبح مواطنيه بدم بارد. إلا انه على رغم جنون القذافيّ الفتاك، فنكتته حاضرة في الأذهان، وعباراته الفجة مسلية، حتى استخدمت أسماءً لأكلات شهية، لا تفزع الناس حين تناولها؛ بل العكس فوجبة «زنقة زنقة» مثلاً تشهد إقبالاً شرها من متذوقة الطعام الطيب، معذرة فأنا هنا لا أقدم إعلاناً لهذه الوجبة وإن كانت تستحق الإعلان لأن اسمها مجتزأ من أقوال القائد البطل، وعلى سبيل المثال قامت احد ى إذاعات «اف ام» باستخدامه «كركتر» إعلان ذكيّ، تقمص صوت الزعيم «الخبل» الذي تفوّه حينها بألفاظ مشحونة بالوعيد والتهديد، فيما صُمّم الإعلان بطريقة مقلوبة، فهو دعوة لمتابعة المحطة! وكنت أتصور وأنا استعرض هذه الإعلانات المشمولة بمقولات الزعيم وأتخيل: لو استبدلت بها مقولات صادرة عن صدام حسين مثلاً فهل ستجد القبول والتصديق، لماذا يا ترى؟ أترك لكم فرصة التفكير والإجابة، وأخيراً سأصادق على كلام الدكتور غازي القصيبي رحمه الله حين قال: «شعرت بشيء يشبه الشفقة، ربما لأنني أحسست أنه كان بإمكان العقيد أن يكون رجلاً عظيماً». واسمحوا لي بإضافة صغيرة لأقول: «لو كان عاقلاً»! [email protected]