تشهد المجتمعات العربية تغيرات في بناها وثقافاتها وقيمها ناجمة عن عوامل متعددة، يتصل بعضها بالحراك المجتمعي الداخلي والصراعات السياسية والاجتماعية والتحولات في موازين القوى، فيما تتلقى هذه المجتمعات تأثير الخارج الناجم عن المستوى المرتفع في اختراق العولمة هذه البنى وإخضاعها لقوانين السوق والثقافة التي تنشرها. من التغيرات ذات التأثير الكبير ما أصاب موقع الطبقات والفئات الفقيرة لجهة المكان الذي احتلته سابقاً في مرحلة ما أطلق عليه «عصر الجماهير» حيث شكلت آنذاك رافعة للتغيير الثوري والقوة المدمرة للبنى المتخلفة، فيما تشكل اليوم الجيش الرئيس الذي تغرف منه الأصوليات والاحتياطي الجاهز للاستخدام من الحركات الإرهابية في المجتمعات العربية. فكيف نقرأ هذا التحول وما العوامل التي تسببت في حصوله؟ على صعيد العالم العربي، استند استنفار وتجييش الطبقات الفقيرة الى رفع شعارات تتصل بالتحرر القومي من الاستعمار والسعي الى استعادة فلسطين من الصهيونية، وبناء مجتمع العدالة والمساواة والديمقراطية والارتفاع بمستوى المواطن العربي وتحسين أوضاعه المعيشية. رفع الفكر القومي العربي بروافده المتعددة من الناصرية إلى البعث إلى القوميين العرب، إضافة إلى التيارات الاشتراكية خصوصاً منها الأحزاب الشيوعية، هذه القضايا والشعارات واستجابت لها الجماهير وأيدتها بقوة، وكان الشارع أبرز معبّر عن هذا التأييد. لم تكن الشعارات المرفوعة والاحتضان الجماهيري لها تنبع من فراغ ولا هي أتت في شكل مفتعل، أو عبر إجبار الجماهير والفئات الشعبية التي تمثل الغالبية الساحقة من الطبقات الفقيرة على هذا التأييد، بمقدار ما كانت الجماهير تستجيب طوعاً وبقوة في النزول الى الشارع والقتال في سبيل هذه الشعارات. كانت هذه الشعارات تعبيراً حقيقياً عن طموحات هذه الجماهير الغفيرة، وكانت تمثل لها الأمل والخلاص بكل معنى الكلمة. لذا تقرأ حركة الشارع العربي الناهض في الخمسينات والستينات في وصفها سعياً إلى التغيير بالمعنى «الثوري»، واعطاء القيادات السياسية الثقة المطلقة في إنجاز عملية التغيير، بصرف النظر عن الوسائل المستخدمة لتحقيق هذا الهدف. فما الذي جرى لتنقلب الأدوار وتبتعد الجماهير الفقيرة عن قيادات الأمس؟ لا يكفي وصف الجماهير في حركتها «الشارعية» بكونها تعبيراً عن التزام عاطفي تجاه هذا الزعيم أو ذاك، أو وفاء لتاريخ نضالي، فالجماهير تنساق بعاطفتها وبالغريزة في محطات كثيرة من حراكها، ولكنها في الآن نفسه تملك حسّاً سياسياً تستطيع بموجبه الاختيار ومحاسبة هذه الفئة الحاكمة أو تلك. فكما كان تأييد الجماهير، خصوصاً فئاتها الفقيرة والمعدمة، يتسم بالصدق والحماسة تجاه هذا الزعيم الذي رأت فيه خلاصها، فإنّ السبب نفسه المتصل بفشل هذه الزعامة عن الوفاء بوعودها، تسبب في الابتعاد عنها واتخاذها خياراً سياسياً آخر. فقد تبيّن لهذه الجماهير أنّ ما وعدت به القيادات القومية والاشتراكية تحول إلى سراب وأنّ ما يجرى على الأرض معاكس تماماً للشعارات الثورية والتقدمية التي مشت خلفها تلك الجماهير سنوات طويلة. بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967 وما تلاها من تحولات في مواقع الطبقات الحاكمة، وجدت الطبقات الشعبية الفقيرة نفسها أمام مزيد من الاحتلال للأرض العربية، واستسلاماً أمام العدو القومي، والتحاقاً بالسوق الرأسمالية والخضوع إلى تبعية وإلحاق للبلدان الإمبريالية. أما على الصعيد السياسي والاجتماعي، فقد بانت الأوضاع عن مزيد من الاستبداد السياسي وقهر الفئات المعارضة وكبت الحريات السياسية والفكرية، وتسليط أجهزة الأمن وإطلاق العنان لها في الاعتقالات والاغتيالات وطرد المعارضين. يضاف الى ذلك كله، مزيد من الانهيار في الأوضاع المعيشية حيث استفحل الفقر وارتفع عدد العاطلين من العمل وازداد عدد المهمشين، واضطر الكثير من الشباب إلى الهجرة سعياً وراء لقمة العيش، واستفحلت الأمية والجهل والجهالة في كل مكان... أي بات العالم العربي يعيش في أسفل درك المجتمعات المتخلفة، وهو الذي يمتلك من الثروات الهائلة التي اذا ما استخدم الجزء اليسير منها، يكفي لوضع المجتمعات العربية في صفوف البلدان المتقدمة. هكذا شهدت الجماهير العربية انهيار أحلامها مع انهيار مشروع التحديث الذي شكّل لها في مرحلة معينة أمل اللحاق بالعالم المتقدم وبالتالي الخروج من إسار تخلفها. لقد ترك انهيار مشروع التحديث فراغاً، تقدمت الحركات الأصولية لملئه انطلاقاً من شعارات غيبية، فرفعت شعار «الإسلام هو الحل» جواباً عن فشل حركات التقدم القومي والاشتراكي. صحيح أنّ هذه الحركات لا تمثل في الواقع البديل الخلاصي لهذه الشعوب الفقيرة، بل هي تعبير عن ازمة مشروع التحديث في اعلى تجلياته، لكنها استطاعت ولا تزال أن تكتسح الساحة العربية وتلحق بها «الجيوش الشعبية» على غرار ما شهده عصر الجماهير سابقاً. يقرأ هذا التأييد الجماهيري في وصفه جواباً عن الإحباط واليأس الذي أصاب هذه الجماهير من الفشل المريع الذي اصاب الشعارات الثورية السابقة. ان الجواب الخلاصي الذي ترفعه الحركات الأصولية، مضروباً باليأس الجماهيري من الفئات الحاكمة والحركات السياسية التي سارت وراءها في عقود سابقة، إضافة إلى الاضطهاد القومي الذي يمارسه المشروع الصهيوني الإمبريالي ومعه انسداد آفاق التسوية التي تعيد الحد الأدنى من الحقوق الوطنية والقومية، كلها تفسر هذا التحول في موقع الجماهير واندفاعها وراء «الوهم الخلاصي» الذي تبشر به الأصوليات. اذا كانت الحركات الأصولية تفيد اليوم من هذا اليأس والإحباط الجماهيري، فإن أنظمة الاستبداد السياسي السائدة في العالم العربي ترى في هذه الأوضاع خير سند لسلطتها. بات محسوماً، وخلافاً للفكر الذي ساد سابقاً، أنّ الفقر لا يشكل تربة ينبت فيها ويزدهر النضال في سبيل الديمقراطية، بمقدار ما يتسبب هذا الفقر في تكريس الاستبداد، لكون الطبقات الجائعة والفقيرة أقرب منها إلى الخنوع والاستسلام والركض وراء لقمة العيش، من أن تكون رافعة ثورية، خصوصاً في مرحلة انهيار الشعارات الثورية ومعها القوى الحاملة لها. قد لا تكون هذه الحال قانوناً مستمراً، لكن التغير في هذا المسار يظل مرهوناً بولادة قوى سياسية واجتماعية جديدة، تستعيد طرح مشروع نهضوي جديد، مستفيدة من تجربة الماضي واستخلاص الدروس من هذه التجربة.