بعد خمسة أشهر من اندلاع حركة الاحتجاجات الشعبية الواسعة في سورية، مازالت الاوضاع في ذلك البلد في حالة «سيولة»، فلا تبدو الاحتجاجات في طريقها للأفول، ولا تبدو السلطات أُضعفت لدرجة تغيِّر معادلات القوة. وعلى الرغم من قرارات تصالحية اتخذتها السلطات خلال الاشهر القليلة الماضية، إلا انه لا يبدو أن أيّاً من هذه القرارات أرضى المحتجين. وخلال تظاهرات الايام الماضية، هتف المحتجون ضد الاعتقالات والحملات الامنية، كما هتفوا ضد قانون الاحزاب الجديد، بحسب ما أعلن «اتحاد تنسيقيات الثورة السورية». وتزداد جراءة المحتجين يوماً بعد يوم، وفي الوقت ذاته تزداد قبضة قوى الامن عنفاً واتساعاً في الأساليب. ولا توجد حتى الآن بوادر ل «نقطة تحول» يمكن أن تضمن نجاح المحتجين، كما حدث في مصر وتونس حين خرج الملايين الى الشوارع للإطاحة برئيسيهما. يقول الصحافي باتريك سيل، الذي كتب سيرة الرئيس الراحل حافظ الأسد، إن «الوضع لم يصل بعد الى تكتل حرج». ويضيف: «دمشق لم تنتفض، وأجهزة الأمن لم تنقسم بعد، والاقتصاد لم ينهر. النظام يبدو ضعيفاً والمعارضة تبدو أضعف». ويرى مراقبون ان احد المشاكل الجوهرية في ما يتعلق بالتعامل مع الوضع السوري، هو غياب المعارضة القوية ذات الشعبية في الشارع السوري، موضحين ان العواصمالغربية باتت في حالة «حيرة « إزاء وجوه المعارضة، فلا احد يريد تغيير نظام لإحلال نظام آخر قد لا يعبِّر عن التطلعات الديموقراطية للشعب السوري. وفي ظل حالة السيولة هذه، تطورت في الأيام الماضية ملامح توترات طائفية، وهو ما يشكل عامل ضغط آخر على العالم الخارجي، الذي لا يريد أن يرى ذلك البلد ذا الاهمية الاستراتيجية في الشرق الاوسط، واقعاً فريسةً لحرب طائفية. وربما تكون حوادث القتل الاخيرة في حمص مقدمة تحمل في طياتها إنذاراً في دولة مختلطة الطوائف والأعراق. ويرى محللون ان خطر اندلاع صراع طائفي حقيقيٌّ، بل إنه قد يروق للبعض داخل اروقة السلطة، بل حتى وبعض خصومها، كوسيلة لكسر جمود الموقف، على الرغم من انه ينطوي على مخاطر جمة على مستقبل ذلك البلد. ويقول يوجين روجان، مدير مركز الشرق الأوسط في جامعة اوكسفورد: «هذه إستراتيجية خطيرة على نظام يحاول البقاء... إذا أصبحت الطائفية مشكلة يتفكك جيشك». ويشير محللون الى أن حوادث القتل في حمص كان الدافع وراءها الحملة الأمنية التي شملت اعتقال وإخفاء وتعذيب عشرات الرجال حتى الموت. ويقول قرويون إن السلطات تسلِّح بالمقابل شباناً لمكافحة التمرد. وقال روجان من مركز الشرق الاوسط: «تماسك (قوات الأمن) محلُّ شك بالفعل، والطائفية أصبحت مشكلة بالفعل». وفي حين تنحي السلطات باللائمة في موجة الاحتجاجات الشعبية على الإسلاميين، فإن الواقع يبدو مختلفاً. يقول بعض المتابعين إن الحركة الاحتجاجية يحركها في الأساس الشبان، وتضم قبائل ريفية وقوميين ويساريين وعلمانيين، وأيضاً إسلاميين اتحدوا على هدف الإطاحة بالنظام. ومن الناحية الجغرافية، امتدت الاحتجاجات منذ آذار (مارس) الى الكثير من المناطق الريفية والقبلية، ومدن مثل حماة وحمص، وحتى إلى دمشق، وإن كانت لم تحدث على نطاق ضخم في قلب العاصمة. وقال مقيمون إن الوحدات الامنية، على الرغم من أنها محمَّلة بأعباء تفوق طاقتها، فقد صعَّدت حملتها وتُظهر صموداً في مواجهة التظاهرات المتنامية. غير أن المقيمين يقولون إن الحركة الاحتجاجية في تنامٍ ولا تُظهر بوادر على التراجع. يقول محللون إن إسقاط النظام ينطوي على مخاطر، لأن هيكل السلطة الحالي مترابط «بشكل عضوي»، ما يعني ان سقوطه سيؤدي الى حالة من السيولة، ليس فقط في المؤسسة الرئاسية والسلطة التنفيذية، بل وقوى الامن والاستخبارات والجيش. هذا هو محل الخطورة، لأن سقوط النظامين المصري والتونسي أدّيا فقط إلى تغيير في مؤسسة الرئاسة والسلطة التنفيذية، فيما بقى الجيش وقوى الامن على حالهما، وهو ما وفَّر نوعاً من الاستمرارية ومنع الانفراط الكامل في عقد مؤسسات الدولة. ويقول روجان إن رحيل النظام السوري ليس وشيكاً، وأضاف: «إنه طريق طويل قبل أن نصل الى المرحلة التي يضطر فيها إلى الرحيل. النظام أقوى كثيراً مما يود الناس اعتقاده». وأصابت الاحتجاجات الحياة في المدن الكبرى بالشلل، وتفتح المتاجر أبوابها لبضع ساعات خلال اليوم وتغلق مبكراً، والنشاط التجاري معطل، وفقد كثيرون وظائفهم. وحين يحل الظلام يسود التوتر العاصمة دمشق التي كانت صاخبة بالأنشطة الليلية، فيما يخرج الآلاف في تظاهرات ليلية في مدن اخرى. وقد يكون الاقتصاد نقطةَ ضعف النظام، فبعد أن كان الاقتصاد ينمو بمتوسط خمسة في المئة على مدى الأعوام الخمسة الماضية، فإن من المتوقع أن يتقلص هذا النمو الى ثلاثة في المئة هذا العام، لأن السياحة التي تمثل 23 في المئة من عائدات سورية من العملة الصعبة والاستثمارات الأجنبية تعطلت. وفي ظل فنادق شبه خالية واحتمالات متزايدة بفرض عقوبات نفطية على سورية، تحاول دمشق جاهدة الحفاظ على العملة المحلية والأجنبية من خلال رفع أسعار الفائدة على الودائع والحد من بيع العملات الأجنبية. وتشير تقارير غير مؤكدة الى أن طهران، التي تعتبر سورية حليفاً وثيقاً، ساعدت النظام بالتمويل والخبرات، ويشير المعارض السوري اسامة المنجد، الى أن ايران أرسلت خبراء لمساعدة السلطات السورية في مراقبة وتعطيل الاتصالات عبر القمر الصناعي والإنترنت. وقالت المعارضة إن الحكومة وجدت صعوبة في مراقبة اتصالات النشطاء الى أن تدخل الإيرانيون وأمدوا السلطات بأجهزة صينية وكورية شمالية لاختراق المحادثات والتنصت عليها. ووسط تمسك المحتجين برؤيتهم وتمسك السلطات برؤيتها، يقول باتريك سيل: «كلما أريق المزيد من الدماء كلما ازدادت صعوبة الوصول الى حل. يجب أن يكون هناك حل ما من خلال التفاوض. إذا لم يتم التوصل الى حل ستندلع حرب أهلية».