لم يكن غريباً أن يقضي محمود مبسوط (فهمان) على المسرح. أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في الفضاء الذي عشقه وأمضى فيه سحابة العمر والكفاح والضحك والدمعات. فنان من ذاك الرعيل النادر الملتاع الذي لم يمتهن الفن ولم يعتبره مجرد مصدر رزق ولا وسيلة إثراء سريع. بل رسالة، رسالة حقيقية بعيداً من المعنى المبتذل لكلمة «رسالة» حين يعلكها بعض محترفي كل نقائضها. فنانٌ مثله لم يكن ليحلم بميتة أكثر «رومانسية» وألقاً ووجعاً، ملتحقاً بكبار سبقوه على الطريق الشيق الشائك الشاق. لقبه الفني الذي غلب اسمه الحقيقي برهانٌ على كونه حفر عميقاً في ذاكرة جيل كامل من اللبنانيين، بل من العرب أجمعين يوم كانت الدراما اللبنانية (بشقيها التراجيدي والكوميدي) قادرة على مخاطبة كل المشاهدين العرب والوصول اليه في عز «الأبيض والأسود» قبل ابتكار «البال» و «السيكام» و «الديجتال» وبقية التقنيات التي سطعت معها الألوان وبهتت الأعمال إلاّ ما ندر منها واستطاع تجاوز محليته القُطرية الضيقة الى الاطار العربي الأوسع في زمن الدبلجة من التركي سياسةً وفناً... ومَن يدري ماذا بعد؟ حاورته في برنامج «ست الحبايب» وحاورت زملاء له ورفاق طريق في البرنامج نفسه وفي «خليك بالبيت» - صلاح تيزاني (أبوسليم) وعبدالله الحمصي (أسعد) وسواهما العشرات - واكتشفت عن قرب وكثب كم من التعب والضنى والضنك والمثابرة والكدح والمرارات خلف تلك القهقهات العالية التي كانوا يستخرجونها من قلوبنا الطرية والابتسامات التي يزرعونها على وجوهنا أطفالاً. مثلما اكتشفت كيف حفر ذاك الجيل من محترفي الفن الشعبي والمؤمنين به نمط عيش حياة لا مجرد سلعة أو باب رزق في الصخر كي يعبّد طريقاً رحبة للآتين بعده. وهكذا قدَرُ الرواد دائماً يحفرون ويزرعون لقطاف قد لا يعيشون حتى تنضج مواسمه ويؤتي أُكُلَهُ. ... ومع ذلك يظل اسم «فهمان» ناضجاً في الذاكرة والوعي والوجدان واحداً من الذين أعطوا عصارة العمر ولم يأخذوا سوى القليل القليل، ومن أولئك الذين يصح فيهم لقب «جيل المظلومين» لأن احداً لم (ولن) يعطهم حقهم. لا الجهات الرسمية المعنية التي تلحق بالمبدعين الى قبورهم لتعلّق لهم أوسمةً على نعوشهم، أو تستدرك الأمر لحظة فوات الأوان في غرف العناية الفائقة في مستشفيات يدخلها هؤلاء بألف جهد ومئة «واسطة»(أذكر أنني صرخت كاتباً يوم وفاة الممثل البارع ابراهيم مرعشلي: آه لو يتم ادخال الفنانين الى العناية اللائقة قبل ادخالهم العناية الفائقة). وما نالوا حقاً أو اعترافاً من «النُخب المثقفة» التي ظلت تعاملهم بنوع من الترفع والازدراء العنصري المقيت، ولا من «النقد العاجي» الذي ما استطاع يوماً التقاط نبض الناس أو فهم ايقاع الحياة أو سبر أغوار الحالات والظواهر الشعبية كتلك التي مثّلها «فهمان» خير تمثيل. عزاء أولئك المبدعين، الأحياء منهم أو الراحلين جسداً الباقين ذاكرةً وذكريات، أن السواد الأعظم من الناس، بالحس السليم والفطرة السوية والسليقة الصادقة، تفاعل وتعامل معهم باعتبارهم ضميراً للفئات المهمَّشة المسحوقة ونبضاً ل «الشارع» الذي أحبهم وقدّرهم وضحك لضحكاتهم وبكى لدمعاتهم وحفظهم في البال والوجدان وحفظ أسماءهم وبقي وفياً لهم وفاءه لنفسه ولنَفَسه. لذا، ليس غريباً ان يكون النفَس الأخير لمحمود مبسوط وسط أولئك الذين أحبوه على امتداد القلوب والبلاد من شمالها الى جنوبها. ابن الشمال اللبناني الذي عاش جلَّ العمر في بيروت يلفظُ أنفاسه الأخيرة على تراب الجنوب مشيداً بأهله وتضحياتهم في مواجهة العدوانية الاسرائيلية الدائمة. هذا مثلٌ ومثالٌ آخر على وحدة الوجدان اللبناني على رغم شراسة فخاخ الفرقة والفتن. يمضي «فهمان» متوجاً بالوسام الأهم: حُبّ الناس. فيما البلد يحتاج كثيراً من الحُبّ وأكثر من «فهمان» واحد؟