لفت نظري تعريف الوطن الذي أورده الكاتب يحي امقاسم في مقالته «مثقف بالإعارة» عدد الثلثاء الماضي في هذا الملحق. يقول: الوطن هو«شخص ما، له مصالحه التي يعرفونها». وحينما نتساءل من هؤلاء الذين يعرفونها؟ يرتفع أمامك سياق واسع وعريض من الأسماء التي ترى إلى نفسها البوابة التي تفضي إلى الوطن، إذ من دونها لا وطن. فكرة شخصنة الوطن هي من العلل الكبرى التي تتسم بها الثقافة المحلية، والمثقفون بشتى توجهاتهم هم الذين تتضح في أفعالهم وأقوالهم هذه الفكرة بامتياز. ربما أشار الكاتب يحي في مقالته إلى نموذجين من المثقفين يمكن اعتبارهما معياراً يقاس عليه. الأول هو ذلك المثقف الأصيل التي لا تحتاج أصالته الثقافية إلى التزلف والنفاق والكذب وحبك شبكة من العلاقات مع مسؤولين متنفذين يوصلونه إلى مراتب عليا في سماء الوطن. أما النموذج الآخر فهو عكس الأول تماماً. لكن قبل الاقتراب أكثر من هذين النموذجين وضرب الأمثلة عليهما، دعوني أطرح التساؤل التالي: ما الذي يجعل فكرة الوطن في تصوراتنا الثقافية تتحول إلى شخص، يتجسد هذا الشخص مثلاً في مسؤول متنفذ يترأس إحدى مؤسسات الدولة أو صاحب قرار فيها، أو يتجسد في رجل مرموق له مكانته الاجتماعية والقبلية، وهكذا؟ أولاً، هناك خلط هائل في تصوراتنا الثقافية من العمق. يتمثل هذا الخلط في عدم التمايز بين الدولة من جهة، وبين الوطن من جهة أخرى. الخلط بين الإثنين يجعل من فكرة الوطن ملحقة بالدولة ومدمجة بها. والمثال على ذلك غياب المناشط والفعاليات الاجتماعية والثقافية والتوعوية والخيرية التي تعزز من حضور مؤسسات المجتمع المدني بمعزل عن هيمنة مؤسسات الدولة وسلطتها. لقد ترك الدور في مجمله للدولة لتقوم بهذه المهمة إلا بعض الاستثناءات من بعض الشركات والمؤسسات كشركة أرامكو ومؤسسة عبداللطيف جميل. غياب شريحة واسعة من المجتمع عن هذا الدور يحمّل الدولة عبئاً كبيراً ينعكس سلباً على صورتها في ذهنية المجتمع. المشاريع الاقتصادية التي تستثمر في الإنسان وذاكرته: الأرض والتاريخ والتراث وجمالياته، وذلك من طرف أبناء المجتمع أنفسهم في شراكة كبرى، هي الضمانة الوحيدة لفك الارتباط بين ثقافة الوطن من جهة، والدولة باعتبارها الراعية لهذه الثقافة من جهة أخرى. ثانياً، هذا الغياب أفضى إلى غياب آخر يتصل أولاً وأخيراً بالنخبة المثقفة، وهو غياب روح المسؤولية والأخلاقية. أي تغليب المصالح الشخصية الضيقة على المصالح العامة باعتبار هذه المصالح العامة تعزز موقعية المعرفة في الثقافة الوطنية من جهة، وتعلي من قيمة إنسان الوطن بوصفه إنساناً من جهة أخرى. لذلك لا غرابة حينما نطلق سمة الهشاشة على الثقافة المحلية بالاعتبار السابق، فالمثقف السعودي هو نتاج نظام ثقافي تربوي يمكن تسميته بالنظام الدائري الذي يعيد إنتاج نفسه في شكل قوالب نمطية جاهزة. وليس نظاماً ثقافياً يتشكل تراكمياً من خبرات متنوعة القيمة والمصدر. هذا النتاج هو أحد الأسباب التي فقدت فيها ثقافتنا الأخلاق المعرفية الصارمة خصوصاً بين المثقفين سواءً في تفكيرهم أو سلوكهم أو فيما بينهم من علاقات. وما أعنيه بالأخلاق المعرفية الصارمة هي القيم المعرفية التي تشكل معياراً أخلاقياً صارماً لا يمكن تجاوزه من هذا المثقف أو من ذاك، أي أنها أشبه بسلطة ذاتية تحكم الفرد من الداخل. هذه القيم من قبيل: إرادة البحث والمعرفة، تقديس الفكر وتعاليه عن المصالح الذاتية، احترام المبادئ والتقاليد في شتى صنوف المعرفة والكتابة، احترام المسافة الفاصلة بين الكاتب وأفكاره، إلى آخر هذه الأخلاق. لكن للأسف غياب مثل هذه الأخلاق جعل الفوضى تعم الساحة الثقافية من كل حدب وصوب، وجعل المتسلقين وأنصاف المثقفين والمبدعين هم الذين يعتلون المنابر والفضائيات، وهم الذين يُستكتبون في الصحف والمجلات، وهم الذين ينظّرون في هذه القضية أو تلك بحسب الطلب من دون وازع معرفي يردعهم عن ذلك، إذ يحركهم بالدرجة الأولى المصلحة وحب الظهور. صحيح أن مثل هذه الظواهر توجد في بلدان عديدة، ونحن لسنا استثناءاً منها، لكن ما هو أكثر صحة أيضاً هو أن نرى هذا الحراك الثقافي المتصاعدة وتيرته في بلدنا من دون أن يصاحب هذا الحراك خطاب نقدي يذهب إلى العمق في تفكيك تصوراتنا حول الثقافة والأدب والمجتمع والتاريخ إلى آخر المنظومة. هذه الفوضى، لماذا لم نجرؤ على تسميتها؟ لماذا نلامس سطوح الأشياء ولا نذهب إلى عمقها؟ أهو بدافع المصلحة والحفاظ على العلاقات، أم بدافع السلامة والدعة؟ عندما ترى كاتباً يسرق مجهود كاتب آخر، وينشر في الصحف، عندما ترى رئيس تحرير تتحول زاويته إلى تصفية حسابات شخصية، عندما ترى مقدمي برامج ثقافية يفهمون في كل شيء ويخوضون في كل شيء باعتبارهم نجوم الفضائيات، عندما ترى المرأة الكاتبة وقد اختزلت قضيتها في إثبات وجودها داخل مؤسسات الدولة فقط، عندما ترى البعض من الذين يتسنمون وظائف في الملحقيات الثقافية لا يفقهون شيئاً في أبجديات الثقافة. عندما ترى مفكراً تظن أنه تنويري في كتاباته، لكنك تتفاجأ بأنه ظلامي في حياته الواقعية حتى النخاع. لذلك عندما ترى كل هذه الأشياء تمر مرور الكرام من دون أن يجري البحث فيها باعتبارها ظواهر تستحق الدرس والمساءلة، يصيبك نوع من الإحباط الذي يؤسس في العادة لفكر تشاؤمي لا نريده في ساحتنا أن يتعاظم. * شاعر وناقد سعودي