كان وربما لا يزال أناس يعتقدون أن الوحدة النقدية تكاد تكون بلسماً يعالج كل الأمراض الاقتصادية، ولكن تجربة الاتحاد الأوروبي بينت لكل متابع أن الوحدة النقدية قد تخلق من المشكلات أكثر مما تحل، إذا تفاوتت الكفاءة الاقتصادية ومستويات النمو بين دول ذات سيادة وطنية وعملة موحدة. فمن المجمع عليه أن إلغاء أو توحيد التعرفة الجمركية، وإيجاد ما يؤدي الى تيسير التبادل التجاري بين الدول كاستخدام عملة واحدة، يرفعان الكفاءة الاقتصادية ككل لدول أي اتحاد نقدي. ولكن الصعوبات «تكمن في شياطين التفاصيل» كما يقول المثل الأجنبي. فالمشترك بين ألمانيا وإيطاليا - على سبيل المثال- هو اليورو، ولكن ليس بينهما مشترك اقتصادي آخر، والمشترك الحضاري يكاد ينحصر في مذاهب مختلفة من المسيحية، وفرنسا واليونان تشتركان في استخدام اليورو كوحدة للتبادل ولقياس كتلة النقد لكل منهما، ومع ذلك لا يوجد بينهما مشترك اقتصادي مهم آخر، وحتى المشترك الحضاري ضئيل إن وجد. فلا جدال أن فرنسا أقدر من اليونان على توفير الحد الأدنى من الخدمات التي لا بد من توفيرها، من دون أن يتجاوز دينها العام ما ينبئ بعدم قدرتها على الوفاء بديونها، والحال أكثر وضوحاً بين ألمانيا التي تتمتع باقتصاد قوي ينمو بنسب جيدة وصادراته تتسامى ووارداته من بقية الدول الأوروبية تنمو بنسبة أقل من نمو صادراته، من جهة، وبلدان أخرى كاليونان والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا، من جهة أخرى. هذا هو أهم شياطين التفاصيل، أي التباين الواضح بين قدرة أعضاء هذا الاتحاد النقدي على الوفاء بأهم الحاجات من دون تراكم الديون العامة الى الحد الذي يغري لصوص نيويورك بالمراهنة على العجز عن الوفاء بالديون حتى ترتفع نسبة خدمات تمويلها، مما يسبب تصاعد مبالغ الديون فيتعذر الحصول على مزيد من القروض للوفاء بحاجات عامة المواطنين. أما قارب نجاة قبرص - كمثال لدولة لم تتضرر كثيراً - من مشكلات الوحدة النقدية حتى تاريخه، فقد تعود الى أن الاقتصاد القبرصي يستمد نحو 80 في المئة من دخله الكلي (أو القومي) من بيع الخدمات من فوق أراضي قبرص، وتقديم خدمات مهمة لقطاع النقل البري والبحري والجوي. فبيع الخدمات الى الأجانب يماثل تصدير السلع في تأثيره الاقتصادي. إن دولاً كبريطانيا والسويد اختارت أن تكون أعضاء في اتحاد أوروبا الاقتصادي وامتنعت عن الانضمام الى الاتحاد النقدي، فلماذا الامتناع؟ قد تكون هناك دوافع تعود الى أسباب تاريخية لما كان بين دول أوروبا من مشاحنات، بل وحروب، ولكن السبب الأهم هو اقتصادي بحت، فالدولة التي تملك السيادة المطلقة في السيطرة على سيادتها النقدية والمالية لا تسلم «دقنها لغيرها» كما يقول المثل السعودي. فاليونان وإيطاليا وإيرلندا وإسبانيا والبرتغال وغيرها من دول الاتحاد النقدي لو كانت كل منها هي التي تُصدرُ العملة المستخدمة داخل حدودها، لرفعت مستوى السيولة أو «كتلة» نقدها، أي كمية عملتها الموفرة للتداول في داخلها، الى حد يرفع تكاليف الواردات ويخفض أسعار الصادرات بالنسبة الى مستورديها خارج الحدود، وزيادة الصادرات المرافقة لانخفاض الواردات، تؤدي الى زيادة نسبة النمو الاقتصادي، أو زيادة الدخل الكلي العام، ما يساعد على «إطفاء» نسبة من الدين العام. إن المختلف بين ألمانيا، وهي الدولة التي تجاوزت المرحلة الصناعية الى ما بعدها، وما رافق ذلك من تسامي كفاءتها الإنتاجية وتوسع طاقتها الاستيعابية، وبينها وبين أكثرية دول الاتحاد النقدي الأوروبي يجعلها هي المستفيد الأكبر من هذه الوحدة النقدية، أو بإيجاز فإن تفوق قدرتها التنافسية على بقية دول الاتحاد هو الذي يجعلها الأحرص على محاولة حل المشكلات المالية التي تعاني منها دول أقرب ما تكون الى النامية منها الى الصناعية، كاليونان والبرتغال، أو شبه صناعية كإيطاليا وإسبانيا. أما مشكلة إيرلندا، فالأرجح أنها تعود بالإضافة الى تخليها عن عملتها الوطنية الى سبب آخر، يتلخص في ترك سلطاتها النقدية الحبل على الغارب للصوص نيويورك ليُغرقوا مؤسساتها المالية والصناعية بالديون حتى راهنوا على رداءتها فتحققت نبوءتهم. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي.