تشغلني، كمصري ومواطن في دولة نامية تسعى إلى التقدم الاقتصادي المتوازن، قضايا شغلت طويلاً وكثيراً مواطنين آخرين في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية. نريد هنا وهناك أن نخطط لمستقبل شعوبنا بهدوء بعيداً من ضوضاء الشعارات الأيديولوجية والسياسية. إذا توصلنا إلى قناعة بأن من الضروري لتقدم الشعوب إدخال اصلاحات اقتصادية تسمح بإيجاد أو ابتكار سياسات تشجع أنشطة القطاع العام لفترات تطول أو تقصر حسب حاجة المجتمع، فلا يجوز أن يكون رد فعل صحافة ومسؤولي الغرب وأجهزته الأيديولوجية والحزبية، وأحيانا الاستخباراتية، انتفاضة غضب وتهديد. فجأة، وبقسوة، تنصب الاتهامات بأن الشيوعيين عادوا، أو أن المبادئ الاشتراكية تسربت، منتهزة فرصة الشروخ المتزايدة في صرح الرأسمالية وفرص أخرى أتاحتها أزمات الهوية وفقدان الهدف وانتشار الفساد والتطرف الديني. وبالعكس تماماً، فإننا إذا توصلنا إلى قناعة بأن تنشيط الحياة الاقتصادية وزيادة فرص العمل واستقرار الأسواق، كلها وغيرها أهداف تستدعي فوراً مد يد العون الكريم جداً إلى ممولي القطاع الخاص وتستدعي أيضاً خفض الضرائب على ذوي الدخول المرتفعة وعلى الشركات الكبيرة، وبخاصة عابرة الجنسيات، فعندئذ يجوز أن تنتفض فصائل اليسار في العالم الثالث والنخب المثقفة ذات الميول اليسارية في أوروبا الغربية، وتتهمنا بأننا نبيع بلادنا للإمبريالية الأميركية ونرهن شرفنا الاقتصادي والاجتماعي لعقد مشبوه اشتهر باسم «إجماع واشنطن». جدل من هذا النوع الذائع الصيت والمتواصل في كثير من دوائر الفكر والسياسة في أميركا اللاتينية ومصر (الجديدة) ودول أخرى في الشرق الأوسط وإفريقيا، وجدل قريب منه أو شديد الشبه به يدور الآن، وللغرابة الشديدة، في دوائر الفكر والسياسة وفي أجهزة الإعلام في الولاياتالمتحدة بخاصة، وأوروبا كذلك، إذ إنه عندما يفكر الرئيس باراك أوباما في حلول وسط ترضي الحزب الديموقراطي وترضي اليمين المحافظ الجمهوري في آن، فيقترح على سبيل المثال زيادة الضرائب على الأغنياء مقابل خفض الإنفاق الحكومي، تنهال عليه الاتهامات بأنه اشتراكي الميول، الميول التي أخفاها خلال الحملة الانتخابية الأولى وهو الآن يكشف عن حقيقته. المفارقة هنا هي في أن هؤلاء الذين يتهمون أوباما بالاشتراكية، يعرفون جيداً أن عدد العمال الأميركيين العاملين في القطاع العام، أي في القطاعات التي تشرف عليها الدولة أو تمولها أو تديرها، لم يزدد خلال فترة حكمه، بمعنى آخر لم ينفذ أوباما سياسات اشتراكية هو متهم بها. تؤكد الإحصاءات كذلك، أن القطاع العام الأميركي فقد خلال عامين في عهد أوباما حوالى 522 ألف وظيفة. نستنتج من هذا الجدل الدائر في أميركا، أن الاقتصاد الأميركي في عهد أوباما لم يستخدم عمالاً جدداً، وأن الأزمة الاقتصادية تزداد تفاقماً في ظل سياسات خفض الضرائب على الأغنياء وإنقاذ البنوك والمؤسسات المالية الخاسرة وإجراءات التقشف التي أساءت إلى الفقراء وأفراد الطبقة الوسطى أشد إساءة. ينسى هؤلاء أيضاً أن الرئيس الأسبق رونالد ريغان، وهو الرجل الذي كانت تسخر منه القيادات الحزبية الأميركية بسبب بساطة تفكيره وقلة خبرته بالشؤون الفيدرالية وتطرفه اليميني، أنقذ أميركا، كما يقول الكاتب ألبرت هانت في صحيفة «هيرالد تريبيون»، من أزمة اقتصادية طاحنة في العام 1982، حين خرج عن إرادة الحزب الجمهوري وأمر بزيادة الضرائب على الأغنياء. ليس صحيحاً بالتالي ما يقوله بعض القادة المتطرفين في اليمين الأميركي، من أن أي زيادة في الضرائب على الأغنياء ستؤدي حتماً إلى فقدان عشرات الآلاف من فرص العمل، لذلك أعتقد أن معظم الجدل في واشنطن هذه الأيام يدور لأسباب تتعلق بالسباق الدوري بين الجمهوريين والديموقراطيين بمناسبة الانتخابات الرئاسية والانتخابات التشريعية النصفية. من ناحية أخرى، لا يخفى على متابعي التطرف المتزايد داخل جماعات اليمين، أن مسألة مقاومة الزيادة في الضرائب حلت كأداة تكاد تكون الوحيدة لجمع شمل اليمين الأميركي محل الشيوعية في زمن الحرب الباردة، هذا رغم أنهم يدركون أكثر من غيرهم أن أميركا هذه المرة تواجه خطراً حقيقياً وداهماً، وأن الوضع الاقتصادي وما يتصل به من مكانة دولية وإستراتيجية ومصالح قومية هائلة، لا يحتمل هذا الانشقاق الخبيث حول رفع سقف الدين الأميركي إلى ما فوق الحد المعتاد والمسموح به. أميركا، حسب ما يقال، مهدَّدة بين أسبوع وآخر بأن تتوقف حكومتها الفدرالية وكذلك حكومات الولايات عن دفع فواتيرها، وبالأخص تلك المتعلقة بالرعاية الاجتماعية والصحية وتعويضات البطالة والتعليم، ومهددة أيضاً بأن يعرف القاصي والداني من خصومها أنها ستقلص من عدد جنودها وقواعدها وأجهزتها المنتشرة حول العالم. سمعت اقتصاديين دوليين ينصحون حكومة أوباما بأن تعلن حالة الطوارئ في سوق العمل الأميركي، وبخاصة بعد أن انخفض عدد من دخلوا هذا السوق في شهر حزيران (يونيو) إلى رقم قياسي لم يعرفه من قبل، وهو 18 ألف عامل، حسب ما سجل الكاتب الآن بلايندار في صحيفة «وول ستريت جورنال»، وهو الذي نبه في تحليله لتفاهة هذا الرقم الى ضرورة أن ننظر إليه في إطار سوق عمالة في الولاياتالمتحدة تضم أكثر من 131 مليون عامل. تقول مجلة «الايكونوميست» الأسبوعية البريطانية في تغطيتها الشاملة لأزمة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وهي المجلة المعبرة بصدق وقوة عن مبادئ الاقتصاد الحر، إن الامتناع عن زيادة الضرائب على الأغنياء في ظل أزمة خانقة تهدد العالم بأسره، لا يخرج عن كونه نوعاً من الأمية الاقتصادية. وفي الواقع، لا يخفي كبار الاقتصاديين الأميركيين خوفهم من انتشار هذه الأمية الاقتصادية بين جماعات بعينها في اليمين الأميركي، مثل جماعة «حزب الشاي» وبعض المرشحين لمناصب قيادية في الولاياتالمتحدة. وقد نذهب إلى أبعد من ذلك، فنشدد مع المشدّدين على أن إصرار بعض القوى الاقتصادية النافذة في الولاياتالمتحدة على الاستمرار في تنفيذ سياسات أدت إلى اندلاع الأزمة المالية العالمية قبل ثلاثة أعوام، يتصدر الأسباب التي ساقت اليونان وغيرها من دول أوروبا الغربية إلى الحالة المزرية التي تعاني منها اقتصاداتها. أدت هذه السياسات، كما نعلم جميعاً، إلى تراكم الديون، ويكفي دليلاً على قرب انهيار هذا النسق من السياسات أو سقوط اقتصادات بأكملها، وصول نسبة الدين إلى الناتج القومي في الولاياتالمتحدة إلى ما يزيد عن 95 في المئة وتجاوزها في دولة أوروبية أو أخرى نسبة المائة في المئة، ولا حل فورياً وإن موقتاً إلا برفع سقف الدين أو طباعة أوراق مالية، والنتائج في الحالتين كارثية، وإن أقل قليلاً من كارثة سقوط النظام الاقتصادي العالمي في حال توقفت واشنطن عن تسديد فواتيرها والوفاء بالتزاماتها. نتوقع بطبيعة الحال فوز التيار المنادي بحل وسط لمسألة رفع سقف الدين الأميركي، ولكن نتوقعه مرتبطاً ببرنامج ضخم لإسقاط عدد كبير من الديون أو نسب كبيرة منها، وإقامة مشاريع قومية كبيرة، وكلاهما من التوصيات المطروحة لإنقاذ اليونان، وربما إن أمكن مصحوبة بزيادة في الضرائب ولو بنسب رمزية، حتى يمكن إقناع الفقراء في اليونان وأميركا وغيرهما من دول الاقتصادات المأزومة بأن يتحملوا نصيبهم في الإنقاذ، وذلك بربط الأحزمة على البطون والقبول بمستوى معيشة متدنٍّ لسنوات طويلة قادمة. ان كثيراً من التوصيات والحلول المطروحة حالياً مازالت لا تراعي بالقدر الكافي الواقع الحقيقي للتوترات الاجتماعية السائدة في دول أوروبية عدة وفي الولاياتالمتحدة ذاتها. ما لا تقوله صراحة هذه الحلول والتوصيات ولكن يقوله الاقتصادي الكبير جوزيف ستيغلتز، ويقوله النائب الجمهوري دينيس كوتشينيك تحت عنوان الافتقار إلى العدالة أو تجاهلها، ويقوله توماس فريدمان حين راح يقارن بين مليونية «ميدان التحرير» في العاصمة المصرية ومليونية «ميدان سينتاغما» في العاصمة اليونانية، هو أن شعار العدالة كان الأبرز والأقوى في الحالتين. آخرون يتوقعون أن تتدهور الأزمة المالية الأوروبية فتتعقد حلول الأزمة المالية الأميركية وتنهار فرص العودة إلى الاستقرار في الشرق الأوسط. * كاتب مصري