يشهد كتابُ «بين الابن والخليفة»، للدكتور مشير عون، على اقتداره في توليد الفكرة الخصبة والمعنى المُشِع من أكثر المسائل حساسية وحرجاً وجدلاً وإشكالاً، فتراه يحثك على التفكير من جديد في قصة إيمانك، لا ليدعوك إلى اعتناق دين أو لاهوت جديد أو قائم، بل ليكشف لك عن مستويات إضافية من المعنى الاعتقادي والتحسس الإيماني، كانت دائماً هناك ومن حولك، إلا أن استجلاء كينونتها الملغزة، يتطلب رؤية من خارج نظام التراتبيات الآمرة، وسلطة الوثوقيات الساذجة، وهي رؤية تنزع إلى تحرير الضمير من أَسْر الوصاية، وتحويل الفعل الإيماني إلى ممارسة نضالية، ترفض التوقف عند حل نهائي مهما كانت وعود هذا الحل وفيرة. بحياد إيجابي ومسعى استكشافي واستضاءة متبصرة، يدشن مشير عون منطقة حرة، ومرحلة جديدة من مراحل الحوار أو التخاطب الإسلامي-المسيحي، بأن ينقله من احتفاليته الفارغة، وسجاليته اللاهوتية العقيمة، إلى التواصل الشفاف والصريح، حول معاني الوجود والحياة والكينونة، التي تجمع الأنظومين، المسيحية والإسلامية، في الأصل والمآل الذي هو الله، وتفرقهما في النشأة والتأويل والرهان والمسار التاريخي، لا لتنتصر فكرة على أخرى، بل ليتسع مدى البحث الإيماني، وتنشأ لغة إيمانية مشتركة، لا تهدف إلى إدراك المعنى الديني عند الطرف الآخر فحسب، بل إلى تلقيه بإقبال وتحسس روحي عميق. يعاين الكتاب، من خلال الأصول اللاهوتية والفكرية لكلا الديانتين، التماثلات والتباينات في تصور هوية الإنسان. وعلى رغم انتماء الديانتين إلى التراث السامي الإبراهيمي، والتشابه في إعلانهما عن محدودية الإنسان ومخلوقيته، واقتران صلاحه بالمشيئة الإلهية، إلا أن هنالك فارقاً جوهرياً يضرب جذوره في عمق العلاقة بين الله والإنسان يتجلى في مفهوم الوحي، ومفهوم الخلاص أو النجاة، ومفهوم الحرية الإنسانية. يرى المؤلف، أن عمارة الإسلام تقوم على وحدانية إلهية مطلقة، تتعالى على أي تشابه بين الكيان الإلهي والكيان الإنساني، الذي هو مجرد آية وضعها الله من خارج كيانه، فرعاية الله للكون والإنسان لا تقتضي من الله الخروج من ذاته لملاقاة الإنسان، بل هنالك هوة سحيقة بينهما يستحيل اجتيازها، تجعل وحي الله من وراء حجاب، أو بوسيط كلامي، ولا يكشف إلا عن أسماء له تحجب عن الإنسان عظمة الجلال الإلهي. هذا يعني أن وحي الله ينحصر في كشفه عن مشيئته أو إرادته، المنبئة عن جوهر الكينونة الإنسانية التي تنقذ الإنسان من الضلال إلى الصلاح. وهي إرادة تهيمن على تاريخ الكون بأسره، وتدبر شؤون الناس في جميع الأزمنة والأمصار، فلا يستطيع الإنسان تجاوز وضعيته البشرية، وليس له من قوام مستقل عن إرادة الله، فهو عبد مخلوق له، ولا يضطلع بمسؤوليته إلا بمعونته وهديه. والإسلام يعلي من شأن الإنسان، وينصبه خليفة لله على الأرض، وهو موقع يستوجب المسؤولية والأمانة، ويستتلي في الإنسان القدرة على القرار الفردي للقيام بواجب تحمل أعباء النهوض بالكون وتعهد هذه الأرض. بيد أن التصاق الكيان الإنساني في ذاته بعيوب وصفات مذمومة تبعده عن جادة الصواب، أعجز الإنسان عن تعيين جوهر طبيعته بمعزل عن سمة العبودية، وكان لزاماً عليه الاسترشاد بهَدْيِ الله، المتمثل بالشريعة، الذي يبلغه طريق النجاة. وعلى رغم أن الإسلام يحرر الإنسان من كل خطيئة أصلية، وعدم اعتبارها حالة كيانية، كما في المسيحية، بل هي فعل إثم يصدر عن إرادة الشر في الإنسان، إلا أن الإسلام يحصر إمكانات الكمال بصلاح الطبيعة البشرية، وفي حدود الانتماء البشري الحتمي، ويفترض العون الإلهي لإنجاز هذا الإصلاح، بأن يفرض عليه حدوداً في تصور صلاحيات كيانه، وعليه الخضوع لشريعة إلهية تُفصِّل له ما يرشده إلى الصراط المستقيم. في المقابل، يرى المؤلف أن الحقيقة الإلهية في المسيحية، لا يعرفها أحد من بني البشر، إلا أننا نتحسس حضور هذه الذات من خلال الوحي الإلهي، الذي تدرج في التاريخ، ابتداء بالوحي الصامت بواسطة خليقته، مروراً بالوحي الذي يكشف عن مشيئة الله كشفاً صريحاً، وانتهاء بالوحي الذي وصل إلى ذروته في كشف الله عن ذاته، لتكون الذات الإلهية عينها هي الوساطة بين الله والناس، ويغدو الله على أكثر ما يمكن من قربى. وخلْقُ الإنسان، وفق ما يوحي به سفر التكوين، عبارة عن فيض الحب في كيان الله، ما يجعل الكيان الإنساني من صميم المثال الإلهي، ويحمل في تضاعيف كيانه بذار الألوهة. بيد أن الخطيئة الأولى أحدثت انقلاباً كيانياً فيه، أعجزت الطبيعة البشرية عن القضاء على هذه الخطيئة، ما استدعى تدبيراً إلهياً وفيضَ حبٍّ ذاتياً آخر من الله، يعود فيه الإنسان إلى صميم المثال الإلهي. قد تمثل هذا التدبير الخلاصي في اقتبال الله المطلق إلى الاتحاد الكينوني بالطبيعة البشرية، ووصل إلى حد الإخلاء الذاتي الذي يُخضع الله، الذي أصبح في هيئة البشر، لأحكام الضرورة، لغرض منح الإنسان في نهاية المطاف الحياة السعيدة. تدبير الله الخلاصي هذا، لا يقتصر على عتق الإنسان من لوثة خطيئته، بل يهدف إلى أن يتجاوز طبيعته البشرية، وتحريره من رباط الانتماء البشري الحتمي، والسلوك به في سبيل القربى الكيانية من الله، التي تحدث تبدلاً كيانياً فيه، ترتقي به من نظام إنساني في الطبيعة يفوق الإنسان ويتجاوزه تجاوزاً، إلى نظام إلهي، يفضي إلى مرتبة الحياة الإلهية وحال التأله المكتسب، والاشتراك السري في الحياة الإلهية. وخلاص الإنسان لا يتحصل بالتدبير الإلهي الخالص فقط، بل لا بد أن يضاف إليه اكتساب إنساني، إذ إن الله أقام في الإنسان حرية أصيلة، تتيح له أن ينقاد إلى العصيان ويتعالي على مشيئة الله بإرادته، ويجعل تاريخ الخلاص ليس فعلَ الله وحده، بل موضعاً للتلاقي الخلاق بين المشيئة الإلهية والمشيئة الإنسانية، فالله لا ينجز تاريخ الخلاص بمعزل عن الإنسان، ولا يفرض عليه تصوراً لسعادته وخلاصه يناقض حريته. وعلى رغم أن الأنظومتين الإسلامية والمسيحية تُجمعان على أن الحق والحرية مقولتان أساسيتان لا يستقيم أي دين إلا بهما، بل تجمعان على أن الحرية مقولة تابعة لمقولة الحق أو الحقيقة، بحيث تكون حرية الإنسان على قدر انتمائه إلى دائرة الإيمان، إلا أن الأنظومتين برأي المؤلف تفترقان في تصوير دائرة الحرية وأطرها، فالقرآن يعتبر أنها تتظلل بانتهاج شريعة الله، في حين ترى المسيحية أنها تتحرك باهتداء الروح. ولما كانت هيمنة الله في الإسلام شاملةً على الوجود الإنساني، فإن هذا يعني أنه لا حرية إنسانية خارج دائرة العبودية الخالصة لله، فالحرية مشروطة بالاهتداء الذي يختبره الإنسان في سلك الاستقامة. والحرية في الإسلام منحصرة بحرية الحق الإلهي في اعلانه لبني البشر، ولا معنى لفعل إنساني خارج عن سلطة الله. ولهذا تجد العقل الإسلامي تواق إلى الانتصار لواجبات الإنسان، من خلال حرصه على تطبيق أحكام الله على الأرض قاطبة، أفراداً ودولاً ومجتمعات، في أدق تفاصيلها القانونية. وهذا يفسر بحسب المؤلف غياب لفظة حرية بذاتها في القرآن، وورود كلمة الحق، التي تهيمن هيمنة عظمى في القرآن. في المقابل، ولما كان الله في المسيحية هو عين الحرية، التي تسمح بأن يهب الله الإنسان منفسحاً حقيقياً لمزاولة حريته في كامل أبعادها. كان الإنسان في التصور المسيحي حراً في صميم كيانه وجوهره، ويطالِبُ باحترامها حتى تخوم الاعتراف بشرعية القدرة البشرية على الضلال. ما يجعل للحرية مقام الصدارة والشرط الذاتي للدعوة المسيحية في تحقيق الخلاص الإلهي. ولعل هذا يفسر عدم اعتناء المسيحية بالتشريع القانوني المفصل لكل الناس، كما في الإسلام، بحكم أن شريعة المحبة في المسيحية لا تفرض على المؤمن المسيحي الحر أي ضرب من ضروب الأحكام التفصيلية، بل تترك له الحرية الكاملة في استنباط النهج الإنجيلي الذي يلائم مقتضيات الأوضاع. ويمكن إيجاز الفوارق المفصلية بين الأنظومتين الإسلامية والمسيحية في النقاط التالية: 1- المسيحية تدافع عن حرية الإنسان في اختيار الضلال أو الهدى، فيما الإسلام يرى بأنه لا سبيل إلى الانعتاق من هيمنة الله الشاملة على مصير الإنسان، إذ إن المشيئة الإلهية شريكة في تحديد قرار الضلال أو الهدى. 2- المسيحية تُعْرِض عن فردية الإنسان وقدرته على الانعتاق من إرث الخطيئة، فيما الإسلام يعزز فرادة الاختيار الفردي. 3- معنى الخلاص في المسيحية هو تجاوز الاكتمال الإنساني إلى الكمال الإلهي، في حين أن الهداية في الإسلام ترسم أحكام البلوغ إلى الكمال الإنساني وتتوقف عنده. 4- العلاقة بين الله والإنسان في الإسلام هي علاقة طاعة مُحبَّة، وفي المسيحية هي علاقة محبة مطيعة. 5- الشراكة في الإسلام تقتصر على استخلاف الله للإنسان في إدارة شؤون الخلق، في حين أنها في المسيحية شركة الآب مع ابنه ورب الكون مع وريثه. 6- على الإنسان في الإسلام الالتزام والتقيد بشريعة الله لتحصيل هدايته. أما المسيحية، فترى أن النور الإلهي المبثوث في مطاوي الضمير الإنساني، يكفل للإنسان استباط الشرائع والأحكام. 7- تنطوي هوية الابن على مقدار عظيم من الحرية الموهوبة، وتنطوي هوية الخليفة على مقدار عظيم من رسالة المسؤولية والأمانة والواجب. وعلى رغم التباينات التي استنتجها المؤلف بين المسيحية والإسلام، إلا أنه يرى أن كلتا الأنطومتين تحملان تماثلاً بنيوياً يقف وراء التباينات والاختلافات وينظمها ويؤطرها، ويجعل خطة التدبير الإلهي للكون والإنسان واحدة وذات وظيفة متماثلة. قد تختلف مع المؤلف في بعض الاستنتاجات التي توصل إليها حول الإسلام، إلا أن مشير عون دشن نمطاً جديداً في البحث المقارن بين الإسلام والمسيحية، حاول فيه تلمس الجذور العميقة والرهانات الحياتية الكبرى والأفق التاريخي لحركة العلاقة مع الله، في كلتا الديانتين، وهو عمل قد يفجر في بداياته وجوه الاختلاف ويكشف عن مسار التباين الكينوني والوجودي للإنسان بين كلتا الديانتين، إلا أنه أيضاً يزحزح مسار علاقات جامدة ومتوترة وملتبسة بين الأنظومتين، ويعيد صياغة بروتوكولات التواصل والتباحث بينهما، ويجترح منطقة تفكير مشتركة بينهما، تجعل الطرفين شريكين حقيقيين، ليس في صنع معية حياتية فحسب، بل في وقوفهما معاً في صعيد واحد للوصول إلى الله.