يمثل مفهوم «الذات المستخلفة» جذراً صالحاً لبناء حداثة عربية - إسلامية، إذ تصير «ذاتاً جدلية» تصالح على صعيد المعرفة بين العقل والإيمان، وعلى صعيد الوجود بين الألوهية والإنسانية، توفيقاً بين عبودية الإنسان لله، إذ لا تتنكر لله ولا تسعى إلى إسقاطه من عليائه أو الادعاء بموته، وبين الحضور الإنساني الفائق في الكون، وسيادته على الخلائق كافة. وعلى هذا النحو تتجاوز هذه الذات مفهومين آخرين للذات الإنسانية يتعاركان على رؤية الوجود: أولهما «الذات المستلبة» والمضمّنة في المفهوم التقليدي للدين المجرد، ذلك الذي يرى في الدين مجرد علاقة جوانية خاصة مع السماء، ولكنه منبت الصلة بما يجري في عالم الظاهر، هنا وعلى هذه الأرض، تقليصاً لفاعلية وجودنا الراهن، في مقابل تمديد وجودنا وتعميقه في العالم الآخر حيث يصبح عالم الشاهد مجرد قنطرة ضيقة، إلى عالم الغيب. الذات المستلبة تجد لنفسها أساساً في الأديان المغتربة عن الحياة الأرضية، والمنسحبة من «عالم الدينونة» نحو «المجد السماوي»، تحديداً البوذية والمسيحية «التقليدية». كما تجد لها صوراً وظلالاً باهتة في الإسلام نفسه، خصوصاًَ في تلك التيارات الجبرية التي تبرعمت سجالاتها الكلامية الأولى في عصر التدوين وعلى رأسها الجهمية، كما لا تزال تمتد روافدها في بعض النزعات السلفية المحدثة التي تعادي العصر، وتنادي بالعود الأبدي إلى تاريخ عريق، تتلمسه في أكثر تياراته نقلية، وأكثر دعواته جبرية. أما المفهوم الثاني فهو «الذات المطلقة» التي تغذت على النزعة «الإنسانية» المتطرفة، وعلى أكثر تيارات التنوير إلحاداً أو لا أدرية، فادعت بمركزية الإنسان في الوجود، كمشرّع لنفسه ورقيب على ذاته. وبالنسبة إلى هذه الذات، فإن الله غير موجود أصلاً، أو أنه قد مات مع بزوغ الإنسانية الجديدة المتوّجة بسيف العقل البتار. هذه الذات تتنكر على الصعيد الوجودي لمتطلبات عالم الغيب، أي لهذا الجانب «الأسمى» من الحقيقة الشاملة باعتباره ليس إلا «ميتافيزيقيا» ناجمة عن هواجس إنسانية محض إزاء الغموض الكوني المخيف، حيث يتقلص الوجود لديها إلى حدود الطبيعة المادية الملموسة التي يمكن اكتشافها وتسييرها أبداً من خلال القوانين المتطورة في التجربة التاريخية بما يضمن سعادة الإنسان ومن دون حاجة إلى ما عداها أو ما فوقها. كما تتنكر، على الصعيد المعرفي، لوسائل المعرفة «النقلية» التي تقوم في الجوهر على نصوص الدين وإلهاماته... ومن ثم تمنح العلم وحده من دون الدين، والعقل وحده من دون الإيمان، حق تفسير الوجود. والواقع أن علم الكلام الكلاسيكي الذي خاض معارك مجيدة في وجه خصوم الإسلام، وحفظ للعقيدة الإسلامية تماسكها وصرامتها المنطقية وأصولها الراسخة، كان عاجزاً، في صورته المجردة، عن أن يقوم بدور حيوي فاعل في الحياة الإسلامية، ذلك أنه بنزوعه إلى التجريد واعتماده الطابع السجالي، وخوضه في مسائل غيبية مفارقة تعلو على العقل نفسه بحيث لا يكون في قدرته التحقق منها صدقاً أو كذباً، قد انتهى إلى أن يكون علماً جافاً لا حياة فيه، ولا تأثير له في الحياة الجوانية أو الواقعية للإنسان المسلم... فما الذي يمكن أن يعنيه لدى مسلم معاصر القول مثلاً «إن الله وجود محض واجب الوجود، وأنه عالم بعلم هو عين ذاته، أو بعلم ليس هو عين ذاته، وإنه حي بنفي الموت عنه، أو عالم بنفي الجهل عنه»؟ ومن ثم، فإن دوراً جديداً معاصراً لعلم الكلام في صياغة حداثة (إسلامية) أو تجديد داخلي يفرض علينا ضرورة تجاوز الجدل القديم، والمماحكات النظرية حول قضية الذات والصفات، وهل الأسماء التي أطلقها القرآن على الله - جلّ شأنه - هي أسماء لذاته أم لصفاته، فهي قضية مفتعلة أثارت معارك فكرية واحتقانات سياسية بين الفرق الإسلامية، واستنزفت كل طاقاتها في سجالات عقيمة تشبه السجالات السفسطائية التي جسّدت أزمة الفكر اليوناني بعد غروب شمس مدارسه الكبرى، خصوصاً الأثينية، وربما أعاقتها عن التطور في المسار الذي أخذه العقل الأوروبي الحديث مثلاً، نحو دراسة الطبيعة وتأملها، أي نحو التجريبية العلمية. ولعل ما نود التشديد عليه هنا وفي الأساس هو أن ما يعرف به الله كأسماء لذاته إنما يعكس قدرته الشاملة، وأن ما يعرف به كأسماء لصفاته، إنما هو تجسيد لهذه القدرة ذاتها، وفي كلتا الحالتين نحن أمام قدرة الله الفائقة المتسامية الشاملة الكاملة المتعددة الجوانب والمستويات، والتي لا تحول، سواء كانت موصوفة أو مسماة، دون وحدانيته جلّ شأنه. وثمة قضية أخرى تتعلق بمدى شمول «العناية الإلهية» والتي كان لها صدى بعيد في حياة المسلمين، فهي التي أشعرتهم بعمق الحضور الإلهي في عالمهم، وبمدى رعايته لخطواتهم. هذا الشعور بدوره (إيجابية الحضور الإلهي في العالم) هو الذي صاغ ألق جماعة المسلمين الأولى، إذ جمعوا على نحو فريد بين التوكل والفاعلية وبين التواضع والعزة، وبين الخضوع والاستعلاء. غير أن هذا الشعور العميق (إيجابية الحضور الإلهي) لم يكن هو الصدى الذي ينعكس عن الجدل الكلامي، بغض النظر عن مدى قبول هذا التيار به أو رفضه له، بل إن الجدل الكلامي كان هو الصدى الذي انعكس عن شعور المؤمنين المباشر والمعاش والمحسوس بهذه العلاقة التي تربط بين الله وإنسانه المستخلف على الأرض. في هذا السياق، لا بد من عزل أكثر المفاهيم الكلامية سجالية وإثارة للمماحكة، وفي المقابل استبقاء أكثر المفاهيم فاعلية في صياغة حداثتنا الجديدة، وهي المفاهيم التي تعنى بالعقل والحرية والتي نجح في صوغها باقتدار متكلمو المعتزلة، قياساً إلى الجبرية الأكثر رجعية، والفلاسفة خصوصاً الفارابي وابن رشد اللذين تأثرا عميقاً بالروح اليونانية. وهنا يمكن التوقف عند مفهومين أساسيين لدى المعتزلة، يعنى أولهما بالعقل، ويعنى الثاني بالحرية. أما الأول فهو مفهوم (القصدية) والذي اعتبره القاضي عبدالجبار شرطاً لفهم الكلام الإلهي، لكنها ليست تلك القصدية المستنبطة من الكلام ذاته (النص)، بل القصدية النابعة من الفهم العقلي للوجود خارج النص أو حتى اللغة، والمضمنة في (الكون أو الواقع)، حيث يربط الإسلام بين نوعين من الآيات: آيات الله الملفوظة، أي القرآن الكريم. وآيات الله المشهودة، أي العلامات الكونية التي بثها في الآفاق وطلب من الإنسان التدبر فيها لكسب معارفه وعلومه. وهكذا، فإن الأشياء لم تعد توجد في الطبيعة على نحو محايد، بل تصير رموزاً يتحدث المؤلف الكلي (الله) من خلالها. وعلى رغم أن النوع اللفظي من الآيات الإلهية، أي القرآن الكريم، يجسد الإرادة الإلهية بصيغة أكثر تعيناً إذ توصل إلينا ما يريد الله بأكبر قدر ممكن من الإحكام، قياساً إلى النوع غير اللفظي، أي الآيات الكونية حيث تكشف الإرادة الإلهية عن نفسها على نحو كلي لا تحليلي، ولا تتوافر على إحكام مفهومي، وتكون الرسالة المُبَلَّغة غامضة إلى أقصى حد، فإن الآيات الكونية تملك ميزة واضحة، إذ في إمكانها أن تخاطب البشر عموماً، من دون أي تقييد، فضلاً عن أنها تعطي نفسها لهم على نحو مباشر، من دون أي وسيط، عكس النوع اللفظي الذي لا يعطى مباشرة إلا لشخص بعينه هو الرسول، ولا يعطى لسواه إلا على نحو غير مباشر، ومن خلال التبليغ. وتتبدى إيجابية هذا التصور لمفهوم القصدية من إدراك حقيقة أن الوحي ذو دلالة مزدوجة على الكليات من جانب، والجزئيات من جانب آخر. أما مفهوم القصدية على هذا النحو الذي يضع العقل في مواجهة الوجود خارج النص، فيمنح العقل حرية أكبر في مواجهة التاريخ، ويحفزه على البحث الدائب عن غايات الله في الوجود، وهي المهمة التي تفرضها مسؤوليته كخليفة على الأرض، وككائن حي متطور في التاريخ، يحتاج دوماً إما إلى إجابات جديدة عن أسئلة قديمة تحقق دوماً معنى العدل في إطار التوحيد من خلال مفهوم التأويل، وإما إلى إجابات جديدة عن أسئلة مستجدة كلية تحقيقاً للمعنى نفسه، ولكن عبر مفهوم القصدية الذي يعبّد الطريق تماماً بين النص والتاريخ. أما الثاني فهو مبدأ أو نظرية (اللطف)، والتي تمثل مسعى عقلياً يحاول التأليف بين الحضور الإلهي في الكون، وبين الإرادة الإنسانية في التاريخ، أي بين الأمر الصادر عن الله «كتكليف ديني»، وبين السلوك المتولد عن الإنسان كإرادة حية تود الاضطلاع بمسؤولية أفعالها. فالله جعل الإنسان حراً لأنه عاقل في نظر المعتزلة. ولذا كلفه بالتدين، لكنه لم يدعه إلى عقله وحريته وحدهما وإنما أنعم عليه ولطف به، لأنه - جلّ شأنه - لا يهدف من التكليف إلا إلى الحسن بالنسبة الى الإنسان، ما يحفظ لهذا الإنسان قدرته على الاعتماد على نفسه والسيطرة على حياته وإمكانية أن يدخل الجنة بجهده وعمله، حيث ارتبط هذا بالاعتقاد بالكفاءة التامة للعقل البشري. هذا اللطف هو الوجه الآخر للعناية الإلهية التي تبدو بمثابة حلقة وسطى تربط بين الحرية الإنسانية، والهيمنة الإلهية، فثمة حرية مطلقة للإرادة الإلهية، لأن الشخص، على رغم استقلاله الذاتي وحريته وقدرته على المبادرة ومواهبه، يبقى تحت تصرف مشيئة الله، وهي مشيئة لا متناهية، ومطلقة، وقديمة، في حين أن الإرادة الآدمية متناهية ونسبية وحديثة، فطرفا المواجهة، إذاً، غير متعادلين! لكن إرادة الله في الوقت نفسه ليست اعتباطية مخاذلة، بل حكيمة مدبرة، بحسب نواميس تسمح لكل مخلوق بأن يمارس الحرية والمسؤولية، كامل الممارسة. ومن ثم، فإن العناية الإلهية ليست تخطيطاً إلهياً مسبقاً تحدد فيه كل شيء من ذي قبل، شأن الطبيعة، بل تعني أن هناك قوة خلاقة وإرادة منقذة في كل موقف، وأن القوى الشريرة المنسوبة إلى الشيطان والتي قد تتموضع في العالم من حولنا أو حتى داخل أنفسنا، في غرائزنا ورغباتنا لا يمكن أن تنتصر في النهاية ولا أن تمنعنا من تأكيد وجودنا الخيّر على الأرض طالما أردنا ذلك وأصررنا عليه. * كاتب مصري