عاب الشيخ مصطفى صبري على الشيخ محمد عبده نقده للأزهر، وعده بذلك النقد قد أعان على انفضاض الناس عن العلم الشرعي، وأعان على تسليم راية الكلام في الدين إلى العصرانيين واللادينيين. وحتى نفهم كلام الشيخ مصطفى صبري على وجهه، علينا أن نعرف أنه كان (رحمه الله وعفا عنه) يصف ابن تيمية وابن القيم بالمبتدعة، وأنهما كانا عنده من الطاعنين على أئمة المسلمين أيضاً! فإذا عرفنا ذلك، وجب علينا أن نتوقف كثيراً من نقده لنقد محمد عبده لعلماء زمنه. الشيخ مصطفى صبري هو آخر مفتي الدولة العثمانية ممن كان يلقب بشيخ الإسلام، توفي سنة 1373ه (1954). وهو عالم كبير، وله جهاد وجهد مشكور. يقول الشيخ مصطفى صبري (رحمه الله)، في كتابه موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين (1/57): «عفا الله عن الشيخ محمد عبده: لما أراد النهوض بالأزهر، حارب علماءه القدماء، وفضَّ المسلمين (وخصّيصاً الشباب والمتعلمين) من حولهم، حاربهم حتى أماتهم، أو على الأقل أنساهم نسيان الموتى، فأصبح بفضل النهضة التي نادى بها الشيخ محمد عبده يقول رجل مثل زكي مبارك: نزعنا راية الإسلام من أيدي الجهلة (يريد بهم علماء الدين) وصار إلى أقلامنا المرجع في شرح أصول الدين». وجدت بعض طلبة العلم يذكر هذه العبارة للاعتراض بها على نقد بعض المؤسسات العلمية الشرعية، ويفوت على من يحتج بها أمور مهمة: الأول: أن الشيخ مصطفى صبري (رحمه الله) على جلالته ليس حجة على الشيخ محمد عبده (رحمه الله)، كما لا يكون محمد عبده (رحمه الله) حجة عليه. الثاني: المنهج العلمي الصحيح هو أن ننظر في الواقعة التي حكم فيها الشيخ مصطفى ونقومها باستقلال، من غير قبول هذا النقد المجمل الخالي من الاستدلال. وإلا فإن هذه الحجة نفسها التي ذكرها الشيخ مصطفى صبري هي الحجة التي تتكرر في ذم دعوة المصلحين دائماً، فقد قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : «فرقت جماعتنا».بل الشيخ مصطفى صبري نفسه يعد شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم من المبتدعة، كما في كتابه المذكور (3/ 3، 394)، ويصفهما بأنهما كانا من الطعانين على علماء المسلمين. فمن أراد أن يجعل كلامه في نقد محمد عبده حجة، هل سيجعله كذلك في نقده لشيخ الإسلام وابن القيم؟ وإذا كان تصوره خاطئاً عن نقد ابن تيمية للعلماء، ما الذي يجعلنا نثق في تصوره لنقد محمد عبده لهم؟ إن هذا الموقف من الشيخ مصطفى صبري تجاه نقد شيخ الإسلام ابن تيمية للعلماء، يجعلنا نتوقف مئة مرة قبل قبول ذمه لنقد الشيخ محمد عبده؛ لأن من كان معياره في نقد العلماء مختلاً في نقده لابن تيمية، قد ينجرّ على نقده لمحمد عبده أيضاً. الثالث: قد ينفض الناس عمن يسمون بعلماء الدين، بعد نقد المصلحين، وقد تتقوض مكانتهم لصالح من هو أبعد عن الحق منهم، كاللادينيين والعصرانيين، ومع ذلك يكون المسؤول عن كل هذه البلايا هم علماء الدين أنفسهم، لا الذي كان يريد إنقاذهم بالنقد والتصحيح! فليس وقوع المآل السيئ والنتيجة المستقبلية تنحصر مسؤوليته في الذي انتقد من يسمون بعلماء الدين، حتى يكون مجرد حصول تقوض منزلتهم لصالح اللادينيين دليلاً على خطأ نقد الناقدين أو خطأ أسلوبه! - ألا يمكن أن يكون استكبار علماء الدين على النقد، ورفضهم النصيحة هو سبب ما حصل، ولو أنهم قبلوا النصيحة (قاسية أو رفيقة) لما سقطوا. - ألا يمكن أن يكون علماء الدين هؤلاء مؤهلين للسقوط قبل النقد الموجه لهم، مؤهلين إلى أن يتسلّم اللادينيين راية الكلام في الدين عنهم، بسبب ضعفهم وعجزهم؟ وهذا ما أشارت إليه عبارة مصطفى صبري نفسها، إذ يقول: «حاربهم حتى أماتهم، أو على الأقل أنساهم نسيان الموتى»؛ فما كان لنقد أن يحيي أو يميت وحده؛ لولا أنهم كانوا في الرمق الأخير، فما قووا على العلاج، فماتوا! وللشيخ مصطفى صبري عبارة أخرى وحكم آخر يستحق المحاكمة، وهو قوله الذي كرره في كتابه: «هؤلاء المجددون من علماء الدين زعزعوا الأزهر عن جموده على الدين، فقربوا الأزهريين إلى اللادينيين خطوات، ولم يقربوا اللادينيين إلى الدين خطوة»، وأنتظر من يحتج به، وكأنه الحكم الفصل على إصلاح غيره! فلقائل أن يقول: وأنتم معشر المتعصبين للاجتهاد البشري غير المقدس، لجمودكم وتقليدكم وعجزكم عن إدراك حاجة العصر وواجب الواقع: لماذا لا تكونون أنتم من زعزع الأزهر، وقربتم الأزهريين إلى اللادينيين خطوات، ولا استطعتم أن تقربوا اللادينيين إلى الدين خطوة! فلماذا لا تكون عيوبكم المستعصية على الإصلاح هي من قرب الأزهريين تلك الخطوات المشؤومة، وعجز عن تحريك اللادينيين خطوة واحدة! ثم ألا يوجد أزهريون استفادوا من ذلك النقد، وباشروا إصلاح ما أفسده جمود من سبقهم من علماء الدين؟ قد لا يراهم الشيخ مصطفى صبري، لكن يراهم غيره، وعدوا ذلك الجيل من المجددين، منهم محمد رشيد رضا. وألا يوجد لادينيون وعصرانييون هداهم الله وعادوا لحياض الدين بسبب فقه واجتهاد أولئك المصلحين؟ بالطبع لن يراهم الشيخ مصطفى صبري ومن لا يرون إلا بعينه. المهم أن أمثال تلك الإطلاقات المجملة قد تعجب البعض، لكنها في ميزان العلم ليست سوى رأي، قد يكون من خصم، كان هو أحد أعداء التجديد والإصلاح، ولا يعفو عن خصومته للإصلاح أنه كان ضد اللادينيين والعصرانيين، كما لم يشفع لخروج الخوارج أنهم كانوا عباداً، ولا لانقطاع الرهبان تبتلهم ورهبانيتهم التي ابتدعوها وما كتبها الله عليهم. * عضو مجلس الشورى.