يتتبع عبد السلام بنعبد العالي في كتابه «سياسة التراث» (توبقال،2011) المشروع الفكري للمفكر الراحل محمد عابد الجابري، منذ كتابه «نحن والترات» حتى مشروعه الفكري الضخم «نقد العقل العربي». ويقف عند الكتاب المؤسس «نحن والتراث» الذي عند صدوره عام 1980 كان بمثابة قراءة معاصرة لتراث فكري عربي ظل الى وقت قريب قريناً لذلك التصور الذي يعتبر التراث مجموعة كتب باهتة اللون، قديمة الورق، عسيرة التهجي، غامضة المعاني. ومع كتاب «نحن والتراث» وضع الجابري الذات العربية «النحن» في مقابل تراث رأى ضرورة تقديمه وإشاعته بين الناس، بعدما كان في ملك خاص، او وقفاً على فئة من دون أخرى، لها وحدها الحق في التنقيب في تلك المخطوطات التراثية المودعة في الخزائن، والنفاذ إلى أسرارها. هنا يستحضر بنعبد العالي تحديد المفكر الماركسي ألتوسير للفلسفة بأنها صراع طبقي على مستوى النظرية. ولكن مع الجابري، الذي نظر إليه بأنه يمارس السياسة في الثقافة، بدأ يتحقق ما يمكن تسميته «شيوعية تراثية». بعدما كانت نصوص التراث بين أيدي المستشرقين، او في المكتبات والخزانات، او في قبضة من سماهم بنعبد العالي «شرذمة من المحققين» كانوا يقدمون لنا التراث دوما على انه أكثر عسراً من ان يكون في متناول ايدينا وبالأحرى في مستطاع إدراكنا. ويستشهد بنعبد العالي بمحنة القارئ وهو يقرأ «التهافتين» («تهافت الفلاسفة» و «تهافت التهافت») بتحقيق سليمان دنيا وطبعة دار المعارف، «حيث يتم تقطيع الجمل وتجزيء العبارة الى درجة انها تفقد معها كل معنى». كان التراث بعيداً منا لا لأنه ينتمي الى الماضي فحسب، بل لأننا «كنا في حاجة إلى الكثير من الوسائط للاقتراب منه». كان التراث كنزاً وذخائر. والكنز كما جاء في معجم « لسان العرب» هو «المال المدفون». الى ان جاء الجابري واتاح الفرصة لقراءة هذا التراث، بل وتأويله. وبذلك أعطى للجميع حق تملكه. وهنا معنى كلمة سياسة التي توفي الجميع حقهم. في كتاب «تكوين العقل العربي» يعتمد الجابري مفهوماً مغايراً لعملية التأريخ للافكار، ويرى ان نشأة المعارف هي قضاء على الأخطاء، وتاريخ الافكار عملية تقويض وتراجع وحفر. وهنا يمكن الحديث عن إجراء حفريات للمعرفة. وهذه العملية وفق ميشال فوكو هي عملية «تقصي للاصول والارتقاء اللامحدود نحو الأسلاف وبناء التراث، ومتابعة خطوط التطور، وتعيين الغايات، واللجوء من دون انقطاع الى مفهوم الحياة لاستعارة معانيه». من هنا يعتبر بنعبد العالي أن المؤلف الثري «تكوين العقل العربي» يدخل ضمن محاولة إقامة «تاريخ تكويني للعقل العربي. أي أنه أساساً محاولة للقيام ضد الطرق التي عهدناها لتاريخ الفكر العربي». والهدف الواضح منه هو تدشين عصر تدوين جديد «تعاد فيه كتابة التاريخ الثقافي العربي بتوجيه من طموحاتنا، نحن العرب، في التقد م والوحدة». انه سياق توحيدي بناء، فالطموحات التي توجهه هي ذات الطموحات التي نلحظها عادة في تاريخ الافكار كلما شعرت جماعة بتوحدها. ومن جهة أخرى فالجابري لا يريد لمشروعه ان يكون مجرد تأريخ للأفكار، «وإنما محاولة لمتابعة الكيفية التي ترسخت من طريق أصول الفكر العربي. لذا فهو يتحدث عن جينيالوجيا التفكير العربي». كما يرمي إلى دراسة أساسيات «المعرفة العربية». يتتبع بنعبد العالي التحولات التكوينية في مسار الجابري الفكري من «نحن والتراث» إلى «نقد العقل العربي»، اعتماداً على مقارنات بين مفاهيمه وأدواته التي اعتمدها، معتبراً «نحن والتراث» لحظة فكرية أساسية في مساره، و «نقد العقل العربي» لحظة أساسية ثانية. وتبين خلالهما ان الجابري لم يكن يهتم بقضايا نظرية خالصة، كما لم يكن يهتم فحسب بالتأريخ لأفكار، وإقامة صرح معرفي ومنظومة فكرية. بل إن ما كان يشغله أساساً هو «إعادة بناء الذات العربية» وفق تعبير الجابري نفسه.