«أهالي الشهداء علموا مسبقاً بقرار الإفراج عن الضباط المتهمين بقتل أبنائهم»!«المتظاهرون الآن يحملون الأكفان ويتوجهون لقطع الطريق»! «أهالي الضباط المتهمين بقتل الثوار في السويس يطلقون النار عشوائياً على أهالي الشهداء المتجمهرين أمام مديرية الأمن الآن»! هذه ليست تصريحات وزير الداخلية، ولا هي بيانات صادرة عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، كما أنها ليست نتائج تحقيقات النيابة في جرائم، لكنها مشاهدات مراسل صحافي يجول ليلاً نهاراً على برامج ال «توك شو» المصرية، بحيث لا يفصل بين ظهوره في هذه القناة وتلك سوى دقائق. النموذج الذي يقدمه هذا المراسل قد يكون فجاً، سواء لانتشاره في كل القنوات الخاصة من دون استثناء، أو لإصراره اليومي على التحدث بلهجة المحقق المحترف العالم ببواطن الأمور، أو حتى لعدم مساءلته من مقدمي البرامج الذين يتركونه يعيث في الإعلام فساداً... لكنه ليس استثناء. ويبدو أن الفوضى التي تعتري الدول عقب الثورات الكبرى تتجلى في شكل واضح في الإعلام. فعلى رغم كسر الحواجز التاريخية بين الإعلام والمسؤولين، والتي كانت تقف حائلاً دون وصول الإعلام، لا سيما غير الرسمي، إلى كبار المسؤولين ومصادر الأخبار الرئيسية بعد الثورة، إلا أن كثراً فتحوا الأبواب لكل من هب ودب ليتلاعب بالرأي العام، ويؤثر فيه، ويشكله في اتجاهات ليست مبنية بالضرورة على وقائع، لكن الكثير منها مستمد من ملاحظات مسيسة، واتجاهات شخصية. المشهد التلفزيوني المصري الراهن يصفه البعض ب «الانفلات» والبعض الآخر ب«الحرية» والبعض الثالث ب «فوضى ما بعد الثورة». ولكن بصرف النظر عن التوصيف، فإن ما يحدث أشد خطراً وأبلغ أثراً لأنه يؤثر بشكل مباشر في ردود فعل ملايين المشاهدين وآلاف الثوار ومئات الصحافيين وعشرات المسؤولين، ليتحول المشهد الشخصي والانتماءات المسيسة في نهاية الأمر إلى المصدر الرئيسي لصناعة الرأي العام. وإذا كان ضيوف البرامج التلفزيونية يمثلون أنفسهم، فإن المشاهد يمكنه الحكم على الآراء بناء على شفافية تكشف ميول الضيف وانتماءاته. لكن المراسل، خصوصاً الذي يتم الاتصال به هاتفياً لنقل صورة لما يحدث على الأرض أمامه، يخرج من خانة الشفافية إلى خانة التوجيه غير الأمين. وفي حال كان المراسل يوجه الرأي العام بطريقة تجانبها الشفافية والموضوعية ويسيطر عليها الانتماء الشخصي، بحسن نية أي بسبب عدم معرفته بقواعد العمل الإعلامي، فإن المصيبة أكبر، لأنه يصبح خطيراً على الأمن العام، فحسن النية لا يعفي من تهمة التضليل. مسؤولية تطهير الإعلام لا يمكن أن تلقى في ملعب وزارة إعلام يُفترض وجودها لفترة موقتة، ولا يمكن كذلك أن يتغاضى عنها بوصفها ليست أولوية. فمراجعة الأطراف الضالعة في تشكيل الرأي العام وتضليله، أو تصحيح مساره، وإمداده بالمعلومة الصادقة أو المغلوطة أمر لا يحتمل التأجيل.