عذر أقبح من ذنب، ومحاولات تكحيل وتجميل تسفر عن عمى كامل، ونشر للغسيل القذر على الهواء مباشرة. هذه المرة، الفضائح والمعلومات ومحاولات التشهير ليست حصرية أو حكراً على قناة من دون أخرى. الجميع منخرط في مكائد المذيعين ورواتب الإعلاميين وتظاهرات الثائرين واعتصامات المظلومين، أو من يتصورون أنهم كذلك. فما كاد المصريون يلتقطون الأنفاس بعد أيام ملاحقة الثورة، ثم متابعة توابعها من ملفات فساد وحسابات بالبلايين يملكها الكبار وعائلاتهم وأصهارهم عبر الشاشات، حتى وجدوا أنفسهم غارقين في متابعة فضائح المذيعين ولجوء بعضهم إلى الأثير معتبرين إياه ملكية خاصة لهم وساحة يخوضون منها حروبهم الشخصية. فمنذ تنحي الرئيس حسني مبارك عن الحكم، وسقوط النظام، والتلفزيون الرسمي للدولة يشهد انفجاراً فئوياً وإعلامياً وطبقياً وإدارياً تلى سنوات من الغليان المكبوت والمغلول. ذلك أن مبنى التلفزيون الدائري المهيب الذي يقف مشرفاً على نهر النيل يئن تحت وطأة آلاف من العناكب التي نسجت خيوطها على واجهته حتى غطت لونه الأصلي بالإضافة إلى ما يزيد على 45 ألف شخص هم تعداد شعب «ماسبيرو»، بين إداري وفني وإعلامي. هذه الآلاف التي تغزو المبنى كل صباح لتجلس متلاصقة خلف مكاتب متهالكة هي نتاج عصور بائدة من التشغيل لغرض التشغيل وليس للإنتاج. وعلى رغم الاستياء الذي ساد بين عاملي «ماسبيرو» نتيجة حديث أستاذ الإعلام حسن حمدي قبل أيام عن العمالة الزائدة في المبنى والتي لا تقدم منتجاً حقيقياً، وعلى رغم أن نصف هذا العدد يعمل في هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» ويقدم منتجاً إعلامياً يعد الأفضل في العالم، إلا أن حمدي كان مصيباً. ولحسن الحظ أن مصيبة العمالة الزائدة لم تدرج بعد على قائمة أولويات حكومة تسيير الأعمال الحالية، وإلا لأضرمت ناراً أكثر ضراوة من تلك التي يشهدها المبنى منذ أسابيع. آلاف من أبناء «ماسبيرو» أطلقوا العنان لمكنون صدورهم ليعبر عن نفسه تارة من خلال اعتصامات مفتوحة في باحة المبنى العتيق، أو أمامه، أو حتى بالتهديد بإيقاف البث التلفزيوني لبضع ساعات تعبيراً عن الاحتجاج. أما أسباب الاحتجاج فاختلفت وتراوحت بين رغبة في تطهير الإعلام، وأخرى في محاربة جهود الثورة المضادة التي ما زالت تدار من الداخل، وطلبات أخرى تتعلق بالتفاوتات الرهيبة في الأجور والحوافز والمكافآت. التخلص من رأسين كبيرين من رؤوس «ماسبيرو»، وهما وزير الإعلام السابق أنس الفقي ورئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون السابق أيضاً المهندس أسامة الشيخ لم يسكت الأفواه المطالبة باجتثاث الفساد. عشرات اللوحات التي رسمها وكتبها العاملون وسمح لهم مسؤولو الجيش بتعليقها على جدران المدخل الرئيسي أشارت إلى قوائم تحوي أسماء قيادات ومذيعين يرغبون في الإطاحة بهم. أما أسباب الإطاحة فتتعلق بفساد مالي، أو تجاوزات إدارية، أو استثناءات غير قانونية، أو لمجرد مجيء بعضهم من خارج مبنى التلفزيون المثقل أصلاً بأعداد مهولة من العاملين في كل القطاعات والتخصصات. وفي خضم فورة الاعتصامات والاحتجاجات والتظاهرات التي تعمّ أرجاء مصر، على رغم قانون التجريم الموشك على الصدور، يشعر بعضهم بالتعاطف تجاه الجانب المختص بضرورة إقالة القيادات الإعلامية التي كانت ضالعة في التغطية المشينة لأحداث الثورة والتعتيم على حقيقة ما كان يحدث وترويع المواطنين والزج بأكاذيب «الأجندات الخارجية» و «وجبات الكنتاكي» و «القلة المندسة» و «الشرذمة المجرمة» في نشرات الأخبار. وتشمل مطالبات الإقالة كذلك عدداً من المذيعين ممن ارتبطوا في أذهان المصريين بالنظام السابق، وعلى رأسهم تامر أمين وخيري رمضان مقدما برنامج «مصر النهارده»، وكذلك لميس الحديدي مقدمة برنامج «من قلب مصر»، لا سيما وأن رمضان والحديدي ليسا من العاملين في التلفزيون. وإذا أضفنا إلى تهمة الصلة الوثيقة بالنظام السابق، ملف الأجور الضخمة التي يتقاضاها أولئك، ومن قبلهم الإعلامي محمود سعد الذي سبقهم في قرار الرحيل عن برنامج «مصر النهارده»، تكون الصورة أوضح بالنسبة إلى احتجاجات العاملين في التلفزيون. وليس خفياً على أحد أن قاعات الانتظار والاستراحات داخل مبنى «ماسبيرو» ظلت حافلة بعشرات المذيعين والمذيعات من المعينين في التلفزيون والذين لا يجدون برنامجاً يطلون من خلاله على المشاهدين، ثم فوجئوا بعشرات الصحافيين الآتين من خارج المبنى يقدمون برامج تكلف الملايين من موازنة الدولة لأسباب تتراوح بين علاقات شخصية تربطهم برؤساء المبنى، أو لانتمائهم للجان الحزب الوطني الديموقراطي الذي كان حاكماً. زاد الطين بلة ما يحدث على الهواء مباشرة هذه الأيام من استباحة الأثير لعرض المشكلات الشخصية بالمذيعين الذين تدور حولهم الأقاويل. فبعد موقعة رئيس قطاع الأخبار عبد اللطيف المناوي مع الإعلامي محمود سعد في برنامج «مصر النهارده» قبل أسابيع، ووصلة التراشق بالعبارات بين الأخير ووزير الإعلام السابق الفقي الذي أصر على فضح سعد بالمجاهرة بالملايين التي يتقاضاها، وذلك لعلم الفقي اليقيني بأن تلك المجاهرة ستقضي على سعد حامي حمى الفقراء، حدثت موقعة أخرى بدأت منفردة من خلال الإعلامي خيري رمضان الذي اعتبر أن الجدال الدائر حول اعتذاره عن عدم تقديم «مصر النهارده» صار قضية رأي عام. ثم انضم له على الهواء كل من رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون سامي الشريف والإعلامية لميس الحديدي ليتحول البرنامج إلى مصارعة شخصية بين الثلاثة. والطريف أن جموع المحتجين والمعتصمين في «ماسبيرو» تطالب برحيل الثلاثة وإقالتهم. المشاهد المصري صاحب الذكاء الفطري يعرف جيداً أن من كان يقرأ النشرة عليه أثناء سنوات النظام السابق مستهلاً الأنباء بخبر وصول الرئيس بسلامة إلى أرض الوطن بعد رحلة غير واضحة المعالم، وبعده خبر تلقيه مكالمة هاتفية من رئيس آخر غير معلومة المحتوى، ثم ثالث عن تظاهرة الحب والتأييد التي خرجت لتأييده من جموع حاشدة غير معروفة المصدر، لن يتمكن بعد الآن من رؤيته على الشاشة وهو يتلو أخبار الثورة، ونتائج التحقيقات في الفساد، على رغم أن المذيع المسكين في الحالين مجرد قارئ للأوراق المرصوصة أمامه. فما بالك ببرامج ال «توك شو» التي تظهر من خلالها شخصية المذيع ونبرة صوته وحركات جسده المؤيدة لسياسات بعينها والرافضة لأخرى؟ الطريف أن «التحريض على الثورة» بات شرفاً يسعى بعضهم إلى نيله. فمن فاتته القوائم البيضاء التي سنها الثوار، يحاول ركوب موجة الثورة واسترضاء الرأي العام بتقديم نفسه باعتباره أحد المحرضين على الثورة بحكم ما كان يقدمه من نقد للنظام وحض على الديموقراطية من خلال هذا البرنامج أو ذاك. «الشعب يريد تطهير الإعلام» شعار يتردد في أروقة «ماسبيرو» وفي جنبات ميدان التحرير أيام الجمعة وداخل كل بيت مصري يحلم بنجاح الثورة. لكن تطهير الإعلام المصري الرسمي أشبه بتطهير مصر من بقايا النظام السابق التي ما زالت تعيث فساداً في كل مكان. أسئلة كثيرة تطرح نفسها: ما هي معايير الفساد الإعلامي؟ وما سر الإبقاء على رموز بعينها داخل «ماسبيرو» يعتبرها كثر رأس الفساد المهني والتضليل الإعلامي ومحاولات إجهاض الثورة؟ وهل كل من صافح الرئيس السابق وأسرته وأصدقاءه وجيرانه يعد فاسداً؟ وهل السكوت على الفساد في حد ذاته فساد؟ وهل تطهير الإعلام المصري سيقف عند حدود التخلص من رموز النظام القديم أم يشمل كذلك التخلص من الآلاف من العمالة الزائدة ممن لم تصافح الرئيس أو تداهن النظام أو حتى تشارك في الثورة، لكنها وجدت نفسها ضمن جيش كامل من القوة المعطلة للإنتاج وسير العمل لكثرة عددها؟