يوم دعاه يوسف شاهين لمشاهدة فيلم «الأرض» عام 1969 سأله جو في نهاية العرض: «إنت لسه برضه يا سمير شايف إن «الأرض» فيلم من وجهة نظر سايح»؟ كان السؤال تلميحاً وإشارة إلى مقال سمير فريد عن فيلم شاهين الأول «فجر يوم جديد» والذي جاء بعنوان: «فجر يوم جديد من وجهة نظر سائح». هنا يقول فريد أن جملة شاهين هذه جعلته يُدرك تأثير النقد وأن المخرج لم ينس عنوان مقال نُشر عام 1965 والذي جاء متأثراً بمحاولات صلاح أبو سيف التقليل من شأن جو وأهميته كمخرج، وذلك بتصدير صورة عن شاهين تُشكك في هويته المصرية، وفي قدرته على تصوير الحياة المصرية بمشاكلها وقضاياها لأنه «خواجة». لم يُنكر سمير أنه تأثر بتلك الآراء لأنه لم يكن يمتلك المناعة الفكرية الكافية وقتها. وحكاية سمير فريد السابقة - التي يختتمها بجملة «ما عدوك إلا ابن كارك» - تُؤكد ما كان يتردد عن صلاح أبو سيف في الوسط السينمائي المصري من أنه عندما كان يشترك في عضوية لجان تحكيم خارج مصر ويكون هناك فيلم مصري مشارك بالمسابقة كان يحاول، بكل السبل الممكنة، أن يمنع أي جائزة يمكن أن تذهب للفيلم المصري حتى لو كان يستحقها عن جدارة. كما هنا ... هناك نستعيد هاتين الواقعيتن بمناسبة تصريح قرأناه بشأن مستوى الأفلام الألمانية جاء على لسان المخرج الألماني توم تيكفر الذي نال 35 جائزة من مهرجانات دولية ورشح لنحو 55 جائزة عن كثير من أفلامه وأشهرها «اجري يا لولا اجري» و «عطر... قصة قاتل»، والذي ترأس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية في مهرجان برلين بدورته الأخيرة. مفاد التصريح أن «الأفلام الألمانية المشاركة بالمسابقة جاءت مفرغة وخاوية، رغم أنها كانت تمتلك بعض الفرص العظيمة لتقول أشياء»، مضيفاً: «أنه لا يجب الاهتمام، فقط، بما تستيطع أن تفعله السينما، ولكن أيضاً إلى أي مدي يمكن أنت تذهب السينما». مَنْ شاهد فيلم «بين الممرات» للمخرج توماس شتوبر، مواليد 1981، يُدرك تماماً أن حكم تيكفر - المولود في 1965 - ليس فقط فيه ظلم كبير لأفلام أبناء وطنه المشاركين، ولكنه أيضاً يبدو وكأنه محاولة لتبرير خروج السينما الألمانية الخالصة الإنتاج من دون جوائز، خصوصاً أن فيلماً واحداً على الأقل هو «بين الممرات» نال إعجاب كثير من النقاد، وكان يستحق جائزة، ليس فقط على مستوى السيناريو المليء بالتفاصيل الإنسانية التي قد تبدو هينة وبسيطة، في حين أنها تحمل شحنة عواطف وشجن قوية، ولكن أيضاً إيقاع الفيلم المُحير، والساحر في آن واحد. فكيف لفيلم أن يستمر لمدة 125 دقيقة، رغم أن لا أحداث كبرى به، لا أكشن، ولا إثارة، ولا شيء عظيماً في شكله التقليدي. ومع هذا ننسى وجودنا في تلك القاعة، فلا نخرج من قلب الشاشة الكبيرة التي تمتصنا تماماً، فنغرق في عوالم الشخصيات، ونتعاطف مع ضعفها، ولحظات مقاومتها أو استسلامها، ورقتها، ورومانسيتها، وحتى ذلك الروتين اليومي نعيشه معها من دون أن نشعر بذلك الملل. ونستمتع معها بسماع السيمفونيات التي تخاطب الروح في معاناتها ووحدتها وخوائها العاطفي. تلك الموسيقى التي كشفت بتوظيفها المرهف عن قدرة وموهبة مخرج سينمائي يعرف كيف يعبر عن القضايا الفلسفية الكبرى من دون أن ينسى شجون وهموم الإنسان الفرد. يتميز «بين الممرات» أيضاً بأداء أبطاله على الأخص فرانز روجوفسكي الذي كان مشاركاً في بطولة فيلم آخر هو «ترانزيت» بتوقيع كريستيان بيتزولد، وفي الفيلمين ينجح روجوفسكي بشكل لافت في تقديم أداء قوي مؤثر يجعل نسيان شخصيته أمراً صعباً رغم الهدوء الذي يُخيم على الشخصيتين. إنه يُذكرنا بعوالم شخصيات دوستويفسكي بكل ما فيها من توتر متواصل حيث تبلغ الأهواء والانفعالات أعلي ذروة ممكنة، لكن ذلك على المستوى الداخلي وهو الأمر الذي توضحه كلمات المخرج «أندريه تاركوفسكي» عن وصفه لشخصية بطله الصغير في «طفولة إيفان» التي كانت تبدو له سكونية من الخارج لكنها داخلياً كانت مشبعة بطاقة هائلة ولدتها عاطفة طاغية. والأبطال الثلاثة في «بين الممرات» ينتمون لذلك النوع من الشخصيات، لكن روجوفسكي نال الحظ الأكبر بأدائه العبقري في بساطته، وبالمساحة الدرامية التي أُتيحت له بكل تفاصيلها من ملابس وماكياج الموظفه درامياً، بما في ذلك «التاتو» على جسمه إذ نرى على كتفيه أعلى منطقة الظهر خنزير وكلب كأنهما يستعدان للهجوم على بعضهما على بعض، وكأنهما تعبير دلالي عن الصراع الدائر في الأعماق، وعن محاولته كبح جماح الماضي الإجرامي له. كذلك المملثلة ساندرا هولر التي شاركته البطولة وبرزت قبل عامين بالفيلم الرائع في سخريته العميقة ونقده اللاذع للعولمة «طوني إيردمان»، ونتوقع أن يكون للبطلين مستقبل واعد وحظ من جوائز هوليوود ذات يوم قريب. صمت الغرام ومرارة الوحدة يبدو شريط «بين الممرات» وكأنه مسرحية مقسمة إلى ثلاثة فصول ومقدمة. كل فصل يحمل اسم أحد الأبطال الثلاثة الرئيسيين، البطلة والبطلة اللذين يقعان في غرام بعضهما بعضاً أثناء أداء عملهما في صمت، لكن فحوى العيون، والإيماءات الجسدية، والكلمات القصيرة، بل القليلة جداً والتصرفات - سواء بين الممرات في ذلك المتجر الضخم أو خارجه في مرات قليلة - تجعلنا نعيش هذا الحب، نشعر به، نضحك معهما، ونتألم لهما، فالبطل قادم من سابقة إجرامية والآن يريد أن ينساها ويعيش حياة جديدة هادئة بعيدة من أصدقاء السوء، لكنه يعاني الوحدة المؤلمة المُرة، حتى أننا عندما نراه خارج المتجر بعيداً عن زملاء العمل تكون المشاهد كلها ليلية قاسية في وحدتها الباردة. وهناك صديق البطل الذي يسانده في ترسيخ مكانته في المتجر قبل أن ينتحر لنكتشف أنه كان يعيش وحيداً غريباً رغم ادعائه أنه يعيش مع زوجته، ثم البطلة المحبوبة، والتي نكتشف أنها متزوجة، لكن زوجها يهينها ويضربها، من دون أن نرى شيئاً من ذلك، لكن لقطات الفيلم تجعلنا نصدقه. ما يستدعي التوقف والتأمل، ليس فقط قدرة المخرج، الذي شارك في كتابة السيناريو مع كليمر ماير مؤلف القصة القصيرة المقتبس عنها الفيلم، على رسم تفاصيل العلاقة بين هذا الثلاثي بهذه الجدة والجاذبية والصدقية، ولكن أيضاً قدرته على جعلها تدور في ظل أجواء هذا المتجر، الذي لا نخرج من ممراته إلا عدد محدود جداً من المرات، وفي الأغلب سيكون الخروج لممرات أخرى، ورغم ذلك يمسك بنا وبشغفنا، ليس فقط في مشاهد الاحتفال بالكريسماس، أو الغناء الرقيق في البانيو للبطلة بينما الحبيب يُنصت إليها متلصصاً جالساً على السلم، أو تلك الطريقة الظريفة الرومانسية في الاحتفال بعيد ميلادها بسرقة قطعة من الغاتوه من إناء مخلفات المتجر، ولكن توماس شتوبر ينجح في أن يحتفظ بجمهوره طوال الفيلم، فهو مثلما جعلنا نسمع صوت موتور الجرار الذي يحمل بضائع المتجر وكأنه صوت البحر، نجح أيضاً في تقديم حياة شديدة القسوة في عمل شديد الرومانسية والرقة من دون أي عنف. بقي أن نشير إلى أن ألمانيا من الدول القليلة التي لا تكتفي بترجمة الأفلام إلى لغتها، ولكنها تقوم بعمل دوبلاج لجميع الأفلام الأجنبية التي تعرض على أراضيها خارج إطار المهرجان لكي تضمن أن تقوم السينما بالدور التثقيفي المنوط بها على أكمل وجه. ومثلما حققت ألمانيا خلال السنوات الأربع الماضية أعلى دخل لها، مسجلة ارتفاعاً ملحوظاً في التصدير الذي يتزايد عاماً تلو الآخر، أيضاً بالتوازي في قطاع السينما شاركت ألمانيا هذا العام في إنتاج حصة كبيرة من الأفلام التي عُرضت في المسابقة الرسمية للبرليناله الثامنة والستين، وهو الأمر الذي يُعيد للأذهان تجربة فرنسا حينما شاركت في إنتاج عدد كبير من الأفلام المشاركة بالمسابقة الرسمية في مهرجان كان عام 2016، ووقتها على سبيل الدعابة كما يبدو قيل أن رئيىس المهرجان أخذ قرارا بأن كل الفيلم سيحمل جنسية مخرجه وليس جنسية البلد المنتج؟!