على وقع مئوية ثورة البلاشفة (1917) وإعادة انتخاب بوتين قيصر روسيا القوي والحرب الديبلوماسية بين بريطانيا وموسكو... جاء تنفيذ وعرض الفيلم البريطاني «موت ستالين» ليعيد النفخ في رماد الحرب الباردة. الفيلم شاركت في إنتاجه دول غربية عدة هي بريطانيا وكندا وفرنسا وبلجيكا، وتولى تنفيذه طاقم بريطاني - أميركي بقيادة أرماندوا يانوتشي مخرجاً ومشاركاً في الكتابة. في البداية رحب بيان من الكرملين بالعمل في أيلول (سبتمبر) الماضي، من دون معرفة محتواه، لكن بمجرد نزوله في صالات السينما ووصوله إلى روسيا انقلب «الترحيب» إلى «حظر» وسحب الإجازة! وأعلنت وزارة الثقافة الروسية أن مواطني البلاد يعتبرونه مهيناً للحقبة السوفياتية التي تصدت للنازية، خصوصاً أنه عرض عشية العيد الخامس والسبعين لمعركة ستالينغراد الشهيرة. ولم يقتصر الرفض على الوزارة، بل أيضاً على شخصيات من أحفاد الزعماء السوفييات الذين جسدهم الشريط، أبدوا غضبهم من الصورة الهزلية لأجدادهم. واعتبر أعضاء في البرلمان الروسي أن الفيلم يتضمن «حربا أيديولوجية»، في إشارة إلى أن نية صناعه ليست بريئة، بل تدخل في نطاق الحرب الباردة والسخرية من أبطال وزعماء مازالوا موضع تبجيل الملايين. والطريف أن دار «بيونير» تحدّت قرار الحظر وعرضته لجمهورها لثلاثة أيام، قبل أن تفرض عليها إحدى المحاكم غرامة 100 ألف روبل، وتدفعها إلى رفعه مع رسالة اعتذار جاء فيها: «لأسباب خارجة عن إرادتنا، تضطر دار سينما بيونير لوقف عرض فيلم موت ستالين... وبحال كانت هناك أي أسئلة نرجو توجيهها إلى وزارة الثقافة الروسية». الأكثر طرافة أن الدار نفسها تعرضت لغرامة أخرى من المحكمة، بسبب فيلم فرنسي آخر عن ستالين نفسه بعنوان «كنبة ستالين» بطولة جيرار ديبارديو. ما يثير أسئلة مهمة عن حساسية التعرض لشخصية تاريخية، مازالت تمارس سطوتها من القبر على أي معالجة سينمائية. الإساءة إلى الرموز حبكة «موت ستالين» لا تتحدث عن الزعيم القوي سوى في مشاهد قليلة لا تخلو من الهزلية، حيث جسده أدريان ماكلوغلان، لكنها تركز على لحظة موته وكيف تعامل معها كبار القادة المحيطون به، وهم: «خروتشوف» (ستيف بوشيمي)، «بيريا» (سيمون بيل)، «مالينكوف» (جيفري تامبور)، «زوكوف» (جايسون إيزاك)، و «مولوتوف» (مايكل بالين).. إضافة إلى ابنه «فاسيلي» (ريبرت فريند)، وابنته «سفيتلانا» (أندريا ريزبوروغ). جميع هؤلاء شخصيات حقيقية، وبعضها يُنظر إليه بتقدير كبير، فعلى سبيل المثال يعتبر «زوكوف» البطل المنتصر في «ستالينغراد»... فهل من حق السينما أن تقدم هؤلاء بصورة هزلية بوصفهم مجموعة من الضباع والحمقى، لا يهمهم إنقاذ حياة زعميهم بقدر التنافس على السلطة؟! إن منطق الفيلم تجاوز تقديم صورة براقة لهم، كما لم يهتم بالنبش في المسكوت عنه والبحث في الحقائق الناقصة، حول موت ستالين أو تعرضه للسم، أو الإهمال إلى أن اكتشفته خادمته العجوز ملقى على الأرض أثناء دخولها بالفطور. وجرت العادة في معظم أفلام السير التاريخية، تبجيل وتطويب الرموز كما في فيلم «الساعة الأكثر حلكة» عن تشرشل، فهل يقبل البريطانيون مثلاً أن يقوم الروس بتنفيذ فيلم هزلي عن تشرشل؟! لذلك لخص وزير الثقافة الروسي فلاديمير مدينسكي سبب الرفض بالقول: «لا توجد لدينا رقابة... لا نخشى النقد والتقييمات غير السارة للتاريخ، لكن هناك خطاً أخلاقياً فاصلاً بين التحليل النقدي للتاريخ وبين تدنيسه». وبعض الدول بالفعل تسن قوانين تحظر على المبدعين «الإساءة» إلى ما تسميه «الرموز» وما ترتبط به من حساسيات دينية وسياسية واجتماعية. اعتمد صناع الشريط على قصة مصورة لفابيان نوري، وثيري روبن، وشارك ثلاثة كتاب في معالجتها سينمائياً من بينهم المخرج نفسه، بروح وأسلوب الكوميديا السوداء التي عادة ما ترتكز على أحداث وشخصيات حقيقية، لكنها تعالجها بشكل ساخر، وتضمّنها إسقاطات كثيرة واستخفافاً ب «التابوات» المهمينة على الوعي الجمعي. فما كان مؤلماً ومأساوياً، وحزيناً، يتحول إلى موضوع ساخر يفجر الضحك، ويدفع المتلقي للتحرر من الخوف، وإعادة النظر في بدهياته التي رهن لها حياته. ومن أفضل التجارب التي تعتبر نموذجاً في هذا المجال الفيلم البريطاني «حياة براين» 1979، الذي قدم معالجة هزلية لحياة السيد المسيح، وهو ما أغضب آنذاك شريحة كبيرة من الجمهور حتى في أوروبا الغربية، مع ذلك حقق العمل نجاحاً نقدياً وتجارياً كبيرًا. فإذا كانت السينما تجرأت على تقديم صورة هزلية لشخصيات مقدسة ومعتقدات يدين بها الملايين، فلماذا لا تفعل الأمر نفسه مع ستالين والمحيطين به... أم أن هناك حدوداً للحرية والإبداع؟ فضح الديكتاتورية إن الفيلم من الناحية الأخلاقية يعد «كاذباً» و «مبالغاً» في التهكم، كما إنه ليس وثيقة تاريخية بالأساس... لكنه من ناحية أخرى يعتبر «حقيقياً» جداً في تصوير وفضح دولة الرعب وأجهزتها الأمنية. فمنذ المشاهد الأولى يجبر الضابط جمهوراً عشوائياً من العمال وربات البيوت على حضور أوركسترا موتسارت، كي يتسنى له تصويرها وإرسالها إلى ستالين الذي طلب مشاهدتها، وكان الضابط المسؤول نسي تسجيلها... بل يتم إرسال قوة من الجنود لإيقاظ «المايسترو» من نومه ليقود الأوركسترا! كما يظهر «بيريا» المرعب وهو يوجه قوائم الاغتيالات ويوزعها عشوائياً على جنوده، ثم يسعى لاحقاً إلى إخفاء ما يدينه استعداداً لوراثة سلطة الزعيم الميت... كما تكررت الإشارات إلى صراع رفاق الأمس وأعداء اليوم، حيث لجأ خروتشوف إلى دعم قائد الجيش زوكوف، بينما استعان بيريا بالشرطة والأجهزة الأمنية، لذلك عندما قرر زوكوف إزاحته لكمه في وجهه وقال له: «إذا أردت القيام بالعمل الصحيح عليك الاتصال بالجيش». وبينما يصطف أعضاء اللجنة المركزية في الشرفة لتأبين الزعيم وكأنهم يد واحدة، تتابع اللقطات لأفراد الجيش وهم يقومون بعملية الاستيلاء على القصر وإعادة ترتيب شكل السلطة. بيريا السفاح المتهم بقتل وإخفاء مئات الآلاف يقترح العفو عن مساجين! وخروتشوف يسمح للشعب بتوديع زعيمه ويقترح إصلاحات سياسية! والحاكم الجديد «مالينكوف» يبدو في مشهد الجنازة رجلاً هزلياً لا يقوى على مواجهة الحرب الدائرة بين الرجلين القويين: بيريا وخروتشوف، والتي انتهت بقتل الأول بوحشية وحرق جثته. شخصيات أرعبت الملايين وسجنت وقتلت الآلاف، كان كل ما يشغلها عندما تتحلق حول الزعيم في المساء أن تلقي عليه «نكتة» تنال رضاه! يحدث هذا وأكثر في معظم الديكتاتوريات، وكل ما فعله الفيلم الذي تم تنفيذه بحرفية عالية وأداء تمثيل راقٍ، أنه أعاد إنتاج كل هذه الشرور مخففة من الألم، ومثيرة للضحك، ودافعة لتأمل مآلات الثورات والزعماء.