في ذلك الحين كانت مدينة ستالينغراد السوفياتية محاصرة من قببل القوات الألمانية الغازية. وكان السكان يعانون، ويتضورون جوعاً، ويعيشون خوفاً يومياً تحت القذائف القاتلة. وكان من الواضح أن الشعب لم يعد يبالي كثيراً بكل ما كان قبل ذلك يعانيه تحت هيمنة ستالين وحزبه وفي إطار القمع المرعب الذي كان مستشرياً ووصل إلى ذروته في المحاكمات الستالينية، غير أن هذه «اللامبالاة» ما كان من شأنها على أي حال أن تنسيه ذلك فيكف عن الحديث لحظةً عن مساوئ لم تتوقف عن الإساءة إلى الوطن منذ اكثر من عقدين من الزمن، وحول إعدام الرفيق القائد رفاقه قبل أعدائه، وحول نشوء طبقة جديدة تحكم وتلتهم خيرات البلد. مهما يكن من الأمر، ومن دون أن يكف الشعب في ستالينغراد، إذاً، عن الحديث عن هذا كله لحظة في أوساطه، وهو يعاني تحت ظل سيد الكرملين ما يعانيه، يقرر يوماً بعد يوم، أن معركته الآن باتت معركة وطنية ضد عدو غاز، جبار يريد أن يلتهم الوطن ثم العالم تحت ذريعة تحريره. وهكذا يغض الشعب النظر عن معركته - التي أضحت ثانوية ضد ستالين وحزبه وسلطته القمعية - ليقاوم المحتلين الأجانب وغزوهم والمتعاونين معهم. قلنا أعلاه إن هذا حدث في ستالينغراد خلال الحرب العالمية الثانية في وقت كان فيه لهيب تلك الحرب قد امتد ليشمل أنحاء عديدة من العالم؟ أجل، ولكنه لطالما حدث في أماكن أخرى، إذ نعرف أن الشعوب، ومهما كان حجم معاناتها الداخلية، ما إن يلوح العدو الخارجي في الأفق حتى تتناسى -من دون أن تتسامح- ما تتعرض له في الداخل من ظلم لتنتفض مدافعة عن الوطن، ونعرف طبعاً أن ثمة حالات كثيرة تعرف فيها الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة كيف تستفيد من التدخل الخارجي لجعل الشعب ينسى «موحّداً» المعركة مع ظالميه! كل هذا معروف ويكثر بشكل خاص في تاريخنا الحديث، أما هنا، فإننا ننطلق من هذا للرجوع إلى ستالينغراد. نعود لنلتقط لحظة من تاريخ هذه المدينة، حيث وسط الحصار والمقاومة البطولية، وسط غزو يبعث اليأس وبطولات شعبية تزرع الأمل، كان رأي الشعب أن تحرير الوطن، ستالينغراد بين مناطق أخرى، سيؤدي حتماً إلى عودة الحرية إلى البلد. اعتقد الشعب -لطيبته وبساطته يومها- أن السلطات الظالمة إذ تعترف للشعب بما بذله من بطولات وتضحيات في سبيل دحر العدو الخارجي، سوف تفهم أخيراً أن هذا الشعب هو سيد البلاد وحاميها، وله الحق في خيراتها وفي الحرية. وهكذا، في ظل المقاومة والصمود يتطلع الناس الطيبون البسطاء إلى يوم التحرير (ودحر المحتل الأجنبي) على أنه يوم الحرية (وعودة السلطة والحقوق الى الشعب). لكن هذا لا يحدث... والرواية الرائعة التي كتبها السوفياتي فاسيلي غروسمان حول تلك المرحلة بالذات وحول تلك الأحداث نفسها، تأتي لتقول لنا لماذا لا يحدث. الرواية عنوانها «حياة ومصير». وغروسمان الذي بدأ يكتب الصفحات الأولى من روايته الضخمة هذه، خلال الحرب العالمية الأولى، يوم كان مراسلاً حربياً وكانت ستالينغراد تحت الحصار والوطن السوفياتي كله مهدداً، نشر جزءها الأول وعنوانه «من أجل قضية عادلة» في العام 1952، وكان ذلك الجزء يسير في خط الواقعية الاشتراكية، التي كانت تعتبر الخط الرسمي للحزب الشيوعي السوفياتي في عالم الإبداع الفني والفكري والأدبي، وكان أي خرق له يعتبر جريمة ما بعدها من جريمة. والحال أن غروسمان لم يخرق ذلك الخط في الجزء الأول من الرواية، ولذا لا نراه يثير غيظاً كبيرا لدى السلطات الستالينية. ولكن في العام 1960، أنجز غروسمان الجزء الثاني من الرواية، الذي نحن في صدده وعنوانه «حياة ومصير»، لكن هذا الجزء لم ينشر إلا في العام 1980، ذلك أن الرواية أثارت فور معرفة السلطات بوجودها غيظ هذه السلطات وغضبها، وعلى الفور بدأ رجال البوليس السري وأجهزة المخابرات يزورون بيت غروسمان ويصادرون أوراقه، بما فيها مخطوطة جزء ثالث عنوانه «كل شيء يمضي» لم ينشر في ذلك الحين. ونعرف أن الجزء المعنون «حياة ومصير» كانت في الثمانينات، أيام الاهتمام الغربي بالمنشقين، الجزء الوحيد الذي نشر. إذاً، في الجزء المعنون «حياة ومصير» من هذه الملحمة الضخمة، تدور الأحداث من حول أسرة شابوشنيكوف التي لم يبق منها في المدينة سوى أختين، هما ليودميلا وإيفغينيا، ولسوف ندرك منذ البداية أن السلطات قد أرسلت زوج إحداهما إلى معسكرات الاعتقال، فيما اعتقل الثاني في سجون الاستخبارات، وذلك في الوقت الذي طُلّق فيه الاثنان قصراً من زوجتيهما بأمر من السلطات. وهاتان لهما الآن رفيقان هما عرضة للتعذيب والملاحقة، الأول لأنه عالم فيزياء يُتّهم بالاتصال بالأعداء، والثاني لأنه عقيد في الجيش تعمّد، على رغم بلائه الحسن، أن يؤخر زحف قواته 8 دقائق لكي ينقذ من الموت عدداً ولو ضئيلاً من رجاله. إذاً، على خلفية حياة هذه الأسرة ومصائر أفرادها تدور أحداث الرواية على مستويات عدة وفي الكثير من الأماكن: وسط الحصار، في المراكز الحساسة، في المعتقلات، عند جبهة التصدي مع النازيين، كما - طبعاً - في داخل البيوت والملاجئ. وإذ يلوح من خلال الكثير من الحوارات في الرواية أن مؤلفها يفضل الديموقراطية الغربية على نوعية الحكم الستاليني السائد في بلاد السوفيات في ذلك الحين، يبدو واضحاً أيضاً - وهذه جريمة كانت تعتبر أمَرَّ من اي جريمة أخرى- أنه يضع الزعيم الشيوعي والزعيم النازي في سلة واحدة، إن لم يكن في شكل مباشر فعلى الأقل في شكل مضمّر، كما في المشهد حيث يتجاور مواطن ألماني وآخر سوفياتي، ونلاحظ على الفور من كلامهما كيف أن الاثنين يتحدثان منطلقين من رعب واحد، لأن الاثنين مطاردان من أجهزة استخبارات تتبع كلاًّ من النظامين النازي والستاليني، اللذين ضحّيا بالفرد لمصلحة أيديولوجية حزبية يُزعم أنها تمثل المجتمع كله والوطن كله. والحال ان غروسمان لا يكتفي بهذا، بل إنه يجعل ولو في فقرات سريعة، من ستالين وهتلر شخصيتين في الرواية ليضعهما على قدم المساواة: إنهما توأمان، ديكتاتوريان، يمارسان السلطة بواسطة أساليب متشابهة. على خلفية هذا كله، تدور أحداث «حياة ومصير». لكن المهم هنا ليس هذا التصوير السياسي والأيديولوجي الذي يبدو متزامناً وموازياً بين أيديولوجية المعسكرين. المهم هو تلك المشاهد التي يضعنا فيها غروسمان في مواجهة شخصيات لا تكفّ عن إيمانها بالنور الذي تتصوّره آتياً خلال عهد ما بعد الحرب، أي ما بعد التحرير، حيث سيكافأ الشعب على صموده بالتخفيف عن كاهله. لكن هذا - كما أشرنا - لا يحدث: الحرية لا تأتي نتيجة للتحرير، ويبقى الشعب على ظمئه وقد شعر فجأة أن تضحياته كلها إنما حُسبت من السلطات تضحياتٍ من أجل الحزب والزعيم. ومن هنا، في الوقت الذي راح العالم يهلل لانتصار ستالينغراد وبطولات شعبها، كان هذا الشعب يعيش قهره الجديد أو المتجدد وخيبة أمله الكبرى، ذلك أن «منطق الأحداث، كما يقول لنا غروسمان في ختام روايته، جعل الأمور تتخذ، في الوقت الذي وصل دفاع الشعب عن مدينته واستبساله من أجلها، صورةً لم يكن الشعب المعاني سيصدق لحظة أنها ستكون هي الصورة: سمحت تلك الحرب لستالين بأن يعلن أن المنتصر فيها هو الحزب، وهو أيديولوجية وطنية الدولة وسلطاتها»، أما الشعب فلم يكن سوى أداة لتحقيق هذا». ولد فاسيلي غروسمان في العام 1905، ليموت في العام 1964، قبل أن تُعرف أعماله الأدبية على نطاق واسع في شتى أنحاء العالم، وبخاصة منها «حياة ومصير». وهو بدأ حياته الأدبية بكتابة روايات واقعية تنتمي إلى الأيديولوجيا الحزبية. وجُنّد في العام 1941 ليصبح مراسلاً حربياً... ما أتاح له أن يشاهد «الحقائق» -كما سيقول لاحقاً- ويرصد بطولات سكان ستالينغراد وخيبتهم اللاحقة. ومن هنا كتب روايته الثلاثية التي تظل شاهداً حياً على ما يقف خلف البطولة وصناعة التاريخ. [email protected]