انضمت دولة جنوب السودان رسمياً إلى المجتمع الدولي أمس، واحتفل مواطنوها بولادة دولتهم وسط دموع الفرح والابتهاج، وأدى سلفاكير ميارديت اليمين الدستورية أول رئيس للدولة الجديدة، فيما سادت في الشمال مشاعر حزن وهدوء، وفرح قلة من الانفصاليين الشماليين. وجرت في مدينة جوبا مراسم إعلان قيام الجمهورية الجديدة، وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة وفي حضور نحو 35 شخصية دولية بينها زعماء أفارقة خصوصاً من دول الجوار (كينيا وأثيوبيا واريتريا وأوغندا وأفريقيا الوسطى)، كما حضر المناسبة الرئيس السوداني عمر البشير وقادة المعارضة في الشمال وأبرزهم زعماء حزب «الأمة» الصادق المهدي و «المؤتمر الشعبي» حسن الترابي و «الشيوعي» محمد إبراهيم نقد. ولوحظ غياب رئيس «الحزب الاتحادي الديموقراطي» محمد عثمان الميرغني على رغم علاقته القوية مع الجنوب. وتم الإعلان التاريخي بعزف النشيد الوطني لجمهورية السودان، وأنزل علم «الحركة الشعبية لتحرير السودان» من على تمثال الزعيم السابق للحركة الراحل جون قرنق ليرفعه سلفاكير ميارديت على السارية، بعدما صار علم جنوب السودان، وسط تصفيق حاد ودموع وأناشيد وهتافات تمجد قرنق، كما أنزل علم السودان وطوي وسلم إلى مدير مراسم البشير وحارسه الشخصي، ثم قررت الجمهورية الوليدة الاحتفاظ به، باعتبار أنها كانت جزءاً من الدولة الأم. وتلا رئيس برلمان جنوب السودان جيمس واني إيقا الإعلان الرسمي لاستقلال جنوب السودان. وقال: «نحن ممثلو الشعب المنتخبين ديموقراطياً وبناء على إرادة شعب جنوب السودان واستناداً الى نتيجة استفتاء تقرير المصير، نعلن جنوب السودان أمة مستقلة ذات سيادة». وأكد أن الدولة الجديدة ستتولى الالتزامات كافة باعتبارها عضواً كاملاً في المجتمع الدولي وستلتزم حماية السلم الدولي وميثاق الأممالمتحدة ودستور الاتحاد الأفريقي. وقرأ إعلان الاستقلال أمام العشرات من رؤساء الدول والشخصيات الدولية البارزة ووسط ابتهاج آلاف الجنوبيين الذين حضروا المراسم. وهتفت الحشود: «لن نستسلم أبداً! أبداً!»، وسط انطلاق صفارات ودموع الكثيرين. وقال ايقا إن جنوب السودان سيسعى «كأولوية استراتيجية» للانضمام الى الأممالمتحدة، والاتحاد الأفريقي، ومجموعة (ايغاد) لبلدان شرق أفريقيا وغيرها من المنظمات والمحافل الدولية. وفي خطوة لافتة، أوقف نائب رئيس حكومة الجنوب الدكتور رياك مشار وزير السلام في حكومة الجنوب باقان اموم الذي بدأ في تقديم البشير للحديث، مشيداً بالدور الذي لعبه الرئيس السوداني في تحقيق السلام، ووصفه بأنه «رجل عظيم أشرف على توقيع اتفاق السلام وتنفيذ بروتوكولاته بشجاعة، وهو يملك شجاعة هائلة ورؤية ثاقبة ضمنت وصول اتفاق السلام إلى نهاياته، وأثبت أنه من خيرة قادة السودان، ودخل التاريخ من أوسع أبوابه كقائد شجاع وحكيم». وهنأ البشير نظيره الجنوبي سلفاكير وشعب الجنوب بدولتهم الجديدة، وأعرب في حديثه أمام الحفل عن تطلعه لأن تنجح دولة الجنوب في قيام مجتمع تسوده روح الديموقراطية والشفافية والمساواة «لأن نجاح دولة الجنوب نجاح لنا، ونؤكد استعدادنا لأن نقدم دعماً تاماً لمؤسسات الجنوب بما تطلبه». وتابع: «نتطلع إلى استدامة السلام بين الشمال والجنوب، وهذا يتم عبر علاقة جوار إيجابية ومراعاة المصالح المشتركة والتأكيد على مسؤوليتنا المشتركة في تعزيز الثقة لإكمال الاتفاق حول المسائل العالقة». وجدد مطالبته الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة برفع العقوبات عن الخرطوم. وتابع: «من حق الشعب السوداني أن يدعو المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي إلى الوفاء بالتزاماته التي قطعها عندما وقعنا اتفاق السلام الشامل. ندعو الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى أن يفي بالتزامه برفع العقوبات الأحادية عن السودان حتى نستكمل تطبيع العلاقات بين بلدينا». أما سلفاكير، فقال أن الجنوبيين لن ينسوا المرارات وأنهم كانوا مواطنين من الدرجة الثانية في السودان. وتعهد بناء دولة حرة وديموقراطية ومحاربة الفساد. وطلب من الجنوبيين التعامل بمسؤولية لأنهم تحت مراقبة أنظار العالم. ورفض ممارسة بعض مواطنيه الذين قاطعوا حديث البشير بالصفير دلالة عن عدم الرضا والضجر. وأعلن عفواً عاماً عن المجموعات المسلحة المناهضة لحكومته وتعهد إحلال السلام في المناطق الحدودية المضطربة، مؤكداً أنه لن ينسى مواطني منطقة أبيي ودارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان. وتابع: «لم ننسهم. عندما تبكون نبكي. وعندما تنزفون ننزف. أتعهد لكم أن نتوصل الى سلام عادل للجميع»، مشيراً إلى أنه سيعمل مع البشير لتحقيق ذلك. وتحدث في الحفل رؤساء دول ومنظمات إقليمية ودولية بينهم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الذي أكد ضرورة شراكة الدولة الجديدة مع محيطها الإقليمي والدولي، خصوصاً مع السودان، مذكراً بالروابط التي تربط شمال السودان وجنوبه. وقالت السفيرة الأميركية لدى الأممالمتحدة سوزان رايس إن «الجنوب انتزع استقلاله بالقوة ولم يجده منحة»، مؤكدة أن «واشنطن ستقف إلى جانب الجنوب ولن تدعه وحيداً في مواجهة التحديات». وأعلن الرئيس الكيني مواي كيباكي اعتراف بلاده بجنوب السودان. وقال إن بلاده تتطلع إلى التعاون والعمل مع الدولة الجديدة كجيران. وناشد حكومة الشمال دعم الدولة الوليدة حتى توفر الشروط المسبقة للتعايش السلمي. وأكد أن كينيا ستقف إلى جانب دولة جنوب السودان في تعزيز السلم والتنمية وفي التعاون الاقتصادي. وفي الشمال، سادت مشاعر حزن وسط المواطنين الذين يرون أنهم فقدوا جزءاً عزيزاً من وطنهم ومات في سبيل ذلك آلاف منهم، وسط هدوء وخلو الشوارع في الخرطوم من الزحام المعتاد مع تزامن المناسبة مع عطلة رسمية. لكن حزب «منبر السلام العادل» الذي يضم الانفصاليين الشماليين ويتزعمه وزير الدولة للإعلام السابق الطيب مصطفى نظم احتفالات في مقار دوره وذبح ثيران وجمالاً «ابتهاجاً بتخلص الشمال من أعباء ثقيلة»، واعتبر المناسبة «يوم الفرح الأكبر». مواقف دولية وتوالت الاعترافات الدولية بالدولة الجديدة، فأعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما اعتراف بلاده رسمياً بجمهورية جنوب السودان. وقال في بيان: «أعلن بفخر أن الولاياتالمتحدة تعترف رسمياً بجمهورية جنوب السودان دولة تتمتع بالسيادة ومستقلة». وأعرب عن ثقته بالعلاقات الجيدة بين واشنطنوجوبا. وأضاف: «في وقت يبدأ سودانيو الجنوب المهمة الصعبة لبناء بلدهم الجديد، تعد الولاياتالمتحدة بأن تكون شريكتهم في سعيهم الى الأمن والتنمية والحكم الذي يلبي تطلعاتهم واحترام حقوق الإنسان». ورأى أن استقلال جنوب السودان يشكل «مرحلة جديدة في المسيرة الطويلة لأفريقيا نحو تحقيق فرصتها بالديموقراطية والعدالة». واعترف الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء بجمهورية جنوب السودان معرباً عن دعمه للدولة الجديدة، ورحب بقرار السودان الاعتراف بها أيضاً. وقال بيان إن «الاتحاد الأوروبي يرحب بقرار حكومة السودان الاعتراف فوراً بجمهورية جنوب السودان الجديدة». وأضاف أن الاتحاد «يدرس اتفاق شراكة مع جمهورية جنوب السودان... ويشجع مسؤوليها على احترام التعددية والتنوع بهدف إقامة مجتمع ديموقراطي ومنصف قائم على القانون واحترام حقوق الإنسان». وأعلن زعماء فرنسا وبريطانيا وألمانيا وتركيا وكندا وجنوب أفريقيا وليبيا اعتراف بلادهم بجنوب السودان أمس. وأعلنت الخارجية البريطانية في لندن تعيين اليستر ماكفيل سفيراً لدى جنوب السودان. وفي حين قالت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل إن استقلال جنوب السودان «يوم فرح وأمل كبير بالنسبة إلى سكانه»، رحب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بإعلان الدولة، وهنأ «سلطات الشمال والجنوب وكذلك شعبي هذين البلدين لأنهما عرفا كيف يجتازان سلمياً هذه المرحلة التاريخية». ودعا الطرفين إلى «عبور هذه المرحلة الجديدة في علاقتهما بروح من الحوار والتعاون والاتفاق سريعاً على مجمل وسائل علاقتهما الجديدة».