يستعد السودان لدخول مرحلة جديدة في تاريخه بانشطاره اليوم إلى دولتين (9 تموز - يوليو)، وستكون دولة إسلامية عربية في الشمال محتفظة باسمها الحالي «السودان» ودولة افريقية غالبيتها مسيحية في الجنوب باسم «جمهورية جنوب السودان». ويتوقع أن يواجه شطرا السودان بعد الانفصال تحديات خطيرة، بدلاً من أن يحلّها الانفصال فإنه سيقدم نموذجاً من شأنه أن يزيد الأمر تعقيداً وخطورة على الجانبين. فبروز دولة جديدة، أحدث انقلاباً في الجغرافيا السياسية للبلاد، وقرر تاريخاً جديداً للمنطقة، وأعاد تشكيل الحقائق التاريخية والمعطيات الاجتماعية التي ظلت سائدة منذ تكوين السودان الحديث في عام 1821. جغرافياً، يمثل الجنوب 26 في المئة من مساحة السودان، و22 في المئة من السكان وفق التعداد السكاني الأخير، كما يقع في الجنوب 65 في المئة من حوض النيل، هذا فضلاً عن امتداد الروافد النيلية الأخرى. وانفصال الجنوب لن يحل المشاكل التي ظل يعاني منها الشمال منذ استقلال البلاد في 1956، لكنه أدى إلى قيام دولتين كلتاهما تواجه مشكلات مشابهة، وقد تكون هذه المشاكل في الجنوب أصعب وأعنف بسبب خروجه من حرب طويلة خلّفت وراءها سلاحاً منتشراً في كل أرجائه. ومع اقتراب ساعة الفراق بين الشمال والجنوب، يمضي كل فريق في طريق، ونشطت حكومة الجنوب في الاستعداد ليوم الرحيل وتأسيس الدولة التي ستحمل الرقم 193 بين دول العالم. بدأت مدن الجنوب الرئيسة الاحتفال منذ وقت مبكر - بإشراف مكتب رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت الذي سيكون أول رئيس للجنوب المستقل - وشمل التحضير الجوانب الأمنية والصحية وغيرها وكان برلمان الجنوب اقر موازنة للاحتفالات خصص لها أكثر من أربعة وتسعين مليون جنيه نحو (30 مليون دولار) تصرف من الاحتياطي النقدي لحكومة الجنوب. وفي مدينة جوبا، كبرى مدن جنوب السودان، يستعد السكان ليومهم الكبير، وتعكف أجهزة المدينة على زراعة الأشجار في الشوارع وإزالة القمامة وطلاء المباني. في الميدان الرئيس في جوبا تقف ساعة إلكترونية كبيرة عليها عداد للزمن، وتتناقص أرقام الساعات والدقائق والثواني، لتؤذن بالاقتراب من اللحظة التي ينتظرها الجميع، وعندما تنقطع الكهرباء عن الساعة، كما هو أمر شائع في جوبا، تختفي الأرقام بالطبع، ولكن تظهر على الشاشة عبارة بديلة تقول «مبروك عليكم حريتكم». ونشرت حكومة جنوب السودان قبل أيام النشيد الوطني لجنوب السودان على نطاق واسع وبثته على موقعها في الانترنت وعبر إذاعات جنوب السودان المرئية والمسموعة ووسائل الإعلام الأخرى، النشيد الذي تبلغ مدته دقيقة و19 ثانية باللغة الانكليزية اللغة الرسمية لجنوب السودان تدشن به حكومة الجنوب الاحتفال مبكراً وتسعى من خلاله لترسيخ المعاني التي تحض على احترام «الشهداء» الذين سالت دماؤهم من اجل الوطن. وأرسلت الحكومة وفودها إلى جهات العالم الأربع تدعو الرؤساء والزعماء لحضور احتفالاتها بقيام دولة جنوب السودان بعد أن كانت حصلت مقدماً على اعتراف دولي بقيامها في المكان والزمان المحددين ولم تتأخر دولة ذهبت إليها الوفود في إعلان ترحيبها بحضور الاحتفالات، وأبدت كثير من الدول مثل الولاياتالمتحدة الأميركية وروسيا والصين ومصر وأوغندا ودول الاتحاد الأوروبي استعدادها لدعم دولة الجنوب بالمال والاستشارات والاعتمادات الفنية. إلا أن بعض المسائل لا تزال تعكر صفو الاحتفال، أبرزها قضية النزاع بين شطري البلاد على ابيي التي تبدو عصية على الحل على رغم التسوية الموقتة الأخيرة التي قضت بنشر قوة أثيوبية وسحب قوات الشمال والجنوب إلى خارج المنطقة ريثما يتم الوصول إلى تسوية نهائية إلا أنها لا تزال في طريق مسدود، إذ ان المواقف متباعدة وكل طرف يتمسك بأحقيته فيها، فمن جهة يضغط أبناء منطقة ابيي من قبيلة دينكا نقوك الأفريقية على حكومة الجنوب من اجل الحصول عليها بينما يضغط أبناء قبيلة المسيرية العربية غلى حزب المؤتمر الوطني الحاكم من اجل الاحتفاظ بها، ومن خلف الفريقين انتظمت مواقف الدولتين. ومن معكرات صفو الدولة الجديدة ما يشير إليه مراقبون من شروخ في الجبهة الداخلية الجنوبية باتت بادية للعيان سواء كان ذلك على مستوى الحروب التي تخوض غمارها فصائل منشقة من الجيش الجنوبي أو الحروب السياسية التي تقودها أحزاب معارضة تقف في صف الرافضين لأفعال وممارسات الحزب الحاكم، ولا يخفى على احد النتائج الكارثية التي أدت إليها هذه الانقسامات في الجسد الجنوبي والتي تهدد تمدد مشاعر الفرح بقيام الدولة الوليدة من رحم المعاناة. ويعتقد خبراء أن حكومة جنوب السودان تحتاج إلى اتخاذ تدابير حاسمة لمواجهة التوتر العرقي وسوء الإدارة والتهميش السياسي والاجتماعي والتنمية الاقتصادية والحكم. ومنذ حزيران 2010 يتفاوض طرفا السلام وشريكا الحكم اللذان يستعدان لطلاق سلمي لتسوية القضايا المرتبطة بفك الارتباط بين الشمال والجنوب ولكن ما حسم حتى الآن محدود ويبدو أن غالبية المسائل العالقة ستنتقل إلى خلاف بين دولتين بعد انفصال الجنوب. فمسألة النفط تبدو معقدة ومرتبطة بمساومة من الجنوب الذي يدرك حاجة الشمال إلى عائدات النفط بعد الانفصال والمفاوضات في شأنها لم تصل إلى نتيجة حتى الآن، وأخيراً أعلنت حكومة الجنوب أنها تتخذ إجراءات قانونية دولية ضد وزارة النفط الاتحادية في حال تسويقها لنفط الجنوب بعد الثامن من تموز من دون موافقتها، وهدد الرئيس عمر البشير بإغلاق خط أنابيب النفط في حال عدم التوصل الى اتفاق، وطرح ثلاثة خيارات تشمل استمرار قسمة العائدات النفطية بين الشمال والجنوب أو إيجار الأنابيب بالسعر الذي يرضي الحكومة في الشمال، أو إغلاق الأنابيب، على أن يبحث الجنوب عن طريقة لتصدير بتروله، وعلى رغم حرص الطرفين على تدفق النفط الذي يعتمد اقتصاد الجانبين في شكل كبير عليه حيث يشكل 98 في المئة من موازنة حكومة الجنوب و 70 في المئة من صادرات الشمال، إلا انه لا يزال معضلة تواجه الطرفين، ومع الأمل في أن يصبح النفط عاملاً مساعداً على استدامة السلام نتيجة حرص الحكومتين عليه، إلا أن الواقع يقول خلاف ذلك ويرجح أن يتحول إلى أداة حرب وممول لها. وأقرت حكومة الجنوب بملكية السودان لبنيات النفط الأساسية (مراكز التجميع والأنابيب ومعامل التكرير ومرافئ التصدير) وحق السودان السيادي في السماح بالعبور واستثمار هذه البنيات بالصورة التي يراها، ودخل الطرفان في مفاوضات تجارية عن كلفة استخدام المجمعات والأنابيب ومعامل التكرير ومرافئ التصدير والعبور السيادية. والمتعارف عليه عالمياً أن الدولة الأم ينبغي أن تنال نصيباً من حصة الدولة المنفصلة عنها بنسبة يتفق عليها، وتتناقص الكمية المحددة تدريجاً حتى تفطم «الأم» وليس المولود لمواجهة الفجوة التي ستحدث بتوقف كميات النفط المنتجة في الدولة الوليدة، ولمنع تعريض اقتصادها إلى الانهيار، أو الى هزة مفاجئة ومكافآتها باعتبارها صاحبة الفضل في إخراج النفط من باطن الأرض. ومن القضايا العالقة الأخرى مسألة الديون الخارجية، فهناك اتفاق مبدئي بين شريكي السلام والوسطاء على اعتماد «الخيار الصفري»، أي ان يلتزم السودان بالديون البالغة 36 بليون دولار، على أن يتخلى الجنوب عن الأصول السائلة والاستثمارات الخارجية إن وجدت وكذا السفارات، ومن المفارقات أن ما استغل من تلك الديون في مشروعات تنموية لا يتجاوز أربعة في المئة، وما تبقى استخدم في تحسين ميزان المدفوعات وشروط جزائية، ولكن الجنوب يريد الاحتفاظ بالكعكة وتقسيمها في الوقت ذاته ولا يرغب في تحمل الديون ولا التخلي عن الأصول. أما بالنسبة الى الأصول الأخرى، فاتفق الجانبان على اعتماد المبدأ الجغرافي في تقسيم الأصول، بحيث تؤول الأصول الثابتة الى الدولة التي توجد في أراضيها. ومن الأمور العالقة ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، فثمة خلاف على أربع نقاط حدودية هي حفرة النحاس ومساحتها 12700 كلم مربع، وكاكا التجارية 1300 كلم مربع، وهي منطقة بين أعالي النيل وجنوب كردفان والنيل الأبيض، ومنطقة المقينص 420 كلم مربع، ودبة الفخار 24 كلم مربع، وعلى رغم توقيع اللجنة الفنية المشتركة على هذه النقاط الأربع، إلا أن الجنوب يسعى إلى إضافة نقطة خلافية خامسة مساحتها 4700 كلم مربع هي المنطقة الواقعة بين دار الرزيقات في ولاية جنوب دارفور وقبيلة دينكا ملوال في منطقة بحر الغزال الجنوبية، وعلى رغم هذه الخلافات، فإن قضية الحدود يمكن إرجاؤها وإن كانت ستتحول إلى نزاع بين دولتين، ولكن ذلك ليس مزعجاً، فلا تزال خلافات السودان مع جيرانه سواء مع مصر أو إثيوبيا أو كينيا أو أفريقيا الوسطى في شأن نقاط حدودية، مستمرة منذ عقود، وسيضاف إليها مزيد من الخلافات، وكان الجنوب لوّح باللجوء إلى محكمة العدل الدولية في حال فشل التوصل إلى اتفاق بين شطري البلاد. وثمة مسألة لا تحتمل أن يحل الانفصال وهي عالقة مثل الاتفاق على العملة، فالجنوب طبع عملته ولكن لن يستطيع استلامها من الشركة التي طبعتها قبل إقرار مجلس الأمن الدولي الاعتراف بالدولة الجديدة، وهي خطوة شكلية ولكنها مهمة، مما يعني أن الجنوب سيتعامل بالجنيه السوداني خلال فترة ستة أشهر على الأقل، غير أن الحوار لا يزال متصلاً في شأن تعويضات العملة السودانية والتي سيتم سحبها من الجنوب بعد انتهاء الفترة الانتقالية حيث ترى الخرطوم أن قيمة هذه العملة اسمية، بينما تطالب حكومة الجنوب باستبدالها بالدولار. في موضوع الجنسية اتفق الطرفان على إقرار مبدأ سيادة الدولة في تحديد جنسية مواطنيها وفق القانون الدولي، مع فترة انتقالية مدتها تسعة أشهر لترتيب أوضاع أبناء الجنوب في الشمال وأبناء الشمال في الجنوب، بعد أن استبعدا مسألة الجنسية المزدوجة، أو منح المواطن حق الإقامة في الوطن الذي يريد. وفي شأن المياه، فالحوار بين الشمال والجنوب متصل واتفقنا على حق تقاسم المياه والعمل المشترك على تنمية مواردها، كما أن أمر المياه مرتبط بالتفاهم والتعاون الإقليمي. وعلى رغم أن هناك نقطة محسومة وتنفيذها يعني الشمال لكنها يمكن أن تتحول إلى خلاف، فحقوق الجنوبيين من العاملين في الخدمة المدنية والعسكرية وهم أكثر من 23 ألفاً في الجيش ونحو 16 ألفاً في الشرطة و4600 في الخدمة المدنية تبلغ نحو بليوني دولار إن أرادت الحكومة تسويتها في شكل كامل، أو دفع 300 مليون دولار دفعة أولى ثم معاشات شهرية قدرها مليونا دولار شهرياً مدى الحياة، وهذه مبالغ لن تستطيع الخرطوم توفيرها بسهولة في ظل شح الموارد وخروج النفط بعد الانفصال. ومن القضايا المرتبطة باستمرار السلام والهدوء على طول الحدود الأوضاع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، اللتين شملهما اتفاق السلام كما يوجد في الولايتين نحو أربعين ألف مقاتل شمالي كانوا جزءاً من الجيش الجنوبي وخاضوا معه الحرب أكثر من عقدين من الزمان، وباتت المنطقتان بؤرتي توتر للدولتين القديمة والجديدة، وتشهد جنوب كردفان منذ 5 حزيران الماضي مواجهات بين الجيش السوداني والمقاتلين الشماليين في الجيش الجنوبي بسبب الانتخابات الأخيرة ومحاولة الجيش نزع سلاح المقاتلين، وعلى رغم توقيع «الحركة الشعبية لتحرير السودان - قطاع الشمال» اتفاقاً مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم على ترتيبات أمنية وسياسية جديدة في المنطقتين، إلا أن نافذين في الخرطوم يعارضون الاتفاق ما ينذر بتفجر الأوضاع وجر الشطرين إلى حرب بالوكالة. واتفق الشمال والجنوب على أن لا عودة إلى الحرب، وعلى دولتين آمنتين قابلتين للحياة والنمو ضمن مناخ يسوده التعاون والامتناع عن أية أعمال تضر بالطرف الآخر ضمن حدود مشتركة آمنة ومرنة تمكن السكان من ممارسة حياتهم الطبيعية وإنشاء منطقة حدود مشتركة عازلة يبتعد الجيشان عنهما لمسافة عشرة كيلومترات من كل جانب، ونشر مراقبين لتجنب أي نشاط يضر بالأمن والاقتصاد وضمان سلامة السكان. مع أن الترتيبات تمضي لضمان انفصال سلس وفراق جميل بين الشمال والجنوب، لكن المخاوف تتزايد من أن الانفصال وتداعياته والتعقيدات التي تواجه شطري البلاد ستحدث هزة تتطلب تعاوناً مشتركاً، وإذا كان قدرهما العيش في جوار بحدود مشتركة هي الأطول في القارة السمراء وانتشار نحو 12 مليون مواطن على جانبي هذه الحدود، فإن عدم التعامل بواقعية أو محاولة إضعاف الآخر يعني ميلاد دولتين فاشلتين.