الحرب هي الخيار المطروح الذي يجري التلويح به لمواجهة المشاكل المتصاعدة بين دولتي السودان بعد أن انفصلت البلاد إلى دولتين في التاسع من يناير من العام الماضي، تنفيذاً لاتفاق نيفاشا عام 2005 الذي أنهى أطول الحروب في أفريقيا. وتتلبد سماء العلاقة بين الجانبين بغيوم تنذر بأن الحرب بينهما على وشك أن تغادر مربع الكلام لتدخل إلى دائرة الفعل، وتتعزز هذه التوقعات على خلفية الأنباء المتداولة بشأن استعداد الجيش الجنوبي للحرب، وقد كشف وزير الدفاع السوداني عبدالرحيم محمد حسين عن جانب من تقرير دفع به للرئيس عمر حسن البشير حول جدية دولة الجنوب في إعلان الحرب على السودان، مؤكدا أن التقرير رصد وجود تحركات للجيش الشعبي منذ أكثر من أسبوع انفتح عبرها شمالا في أكثر من 3 محاور. والحديث عن احتمالات عودة الحرب ليس بجديد على تصريحات قادة الدولتين، إذ قال الرئيس عمر البشير خلال حوار عرضه التلفزيون الرسمي في وقت سابق، إن الحرب بين الدولتين باتت أقرب من السلام. وجاءت تصريحات البشير كرد فعلٍ بعد أن حذر نظيره الجنوبي سلفاكير من أن النزاع يمكن أن يتجدد إذا لم تفضِ مفاوضات النفط مع الخرطوم، للوصول إلى اتفاق يعالج قضايا رئيسة أخرى، ومن بينها منطقة أبيي المتنازع عليها. نذر حرب وبجانب المواجهات الدامية التي تخوضها حكومة الخرطوم ضد مجموعات متمردة في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، إلا أن نذر حربٍ أكبر وأوسع تبدو الآن في شمال وجنوب السودان.. وتصاعدت الأحداث وزادت الحرب الكلامية بين الجانبين بعد أن قررت دولة الجنوب في 20 يناير الماضي وقف إنتاجها النفطي الذي كان يمر عبر الشمال الذي يملك البنيات التحتية اللازمة التي تشمل الأنابيب ومصافي التكرير. ويقول الأمين العام للحركة الشعبية وكبير المفاوضين في الجنوب باقان أموم "إن قرار وقف ضخ البترول عبر أراضي الشمال يرجع إلى قيام الحكومة السودانية بمصادرة نحو 6 ملايين برميل من بترول الجنوب، تزيد قيمتها على 500 مليون دولار ويطالب الجنوب برد هذا المبلغ". الحكومة السودانية من جانبها تنفي هذا الاتهام، وتقول إنها لم تتلق منذ إعلان دولة الجنوب قبل أكثر من عام أي رسوم لنقل البترول عبر الأنابيب التي تمر بأراضيها، كما أن الوعود الدولية برفع العقوبات الاقتصادية وتخفيض الديون عنها، التي لازمت موافقتها على اتفاقية نيفاشا لم تنفذ، والشاهد أن عجز الموازنة في الشمال اتسع بشكل كبير منذ أن خسر عائدات البترول التي ذهبت للجنوب. وتتجه المواجهة بين دولتي السودان نحو شفير الهاوية بسبب نزاع حول النفط تمثل في احتجاز ناقلات وإغلاق آبار نفطية ما يهدد السلام الهش بينهما، ورغم استمرار التوتر بين الدولتين منذ انفصال الشمال عن الجنوب في يونيو الماضي، إلا أنها لم يسبق أن وصلت لمثل هذه الدرجة من الخطر، إذ تنخرط الدولتان في حرب بالوكالة بتأليبهما الجماعات المتمردة على كلا الطرفين وفي بعض الأحيان خوض اشتباكات مباشرة. فشل الحلول ويأتي التصعيد الحالي كعرض من أعراض فشل التوصل خلال أكثر من عام بعد انفصال الجنوب إلى حلول للقضايا الرئيسية المتنازع عليها، فالنزاع المسلح بين الطرفين حول تبعية منطقة أبيي ما زال مستمراً، ما دفع مندوبة الولاياتالمتحدة الأميركية في مجلس الأمن إلى التلويح بإمكانية استخدام قوات دولية في المنطقة ضد حكومة الخرطوم وفقاً للبند السابع من ميثاق الأممالمتحدة بعد سيطرة الجيش السوداني على مناطق شاسعة في الإقليم. وما تزال قضايا الحدود بين البلدين عالقة دون حسم. كما ترفض الحركة الشعبية تحمل أي أعباء مالية خاصة بقضية الديون الخارجية، لأنهم يرون أن الديون تراكمت من جراء الحرب على الجنوب وليس لتنميته. واتجهت حكومة الجنوب التي يمثل النفط 98% من ميزانيتها بعد وقف ضخه إلى سياسة تقشف شديدة، كما تبحث العرض الذي تقدمت به شركة أميركية، لإنشاء خط أنابيب بترول جديد، يمتد من جنوب السودان إلى ميناء لامو في كينيا، وتتفاوض في الوقت ذاته مع إثيوبيا لبناء خط أنابيب آخر يمر عبر جيبوتي، لكن تنفيذ هذه المشروعات يحتاج إلى وقت طويل، ولا يستطيع الجنوب الذي يسكنه 8 ملايين نسمة، ويفتقد إلى كثير من الموارد أن يتحمل خسارة قدرها 650 مليون دولار شهرياً يدرها تدفق آبار النفط، وبالتالي ليس بإمكانه أن يواصل سياسته بإغلاق تلك الآبار لفترة طويلة، لكن المراهنة على هذا الجانب وحده لا تكفي لدرء مخاطر نشوب حرب بين البلدين، بل عليهما معاً، بعد أن تأكد خسارة الطرفين من هذا التصعيد الذي لم يكسب منه سوى دعاة الحرب في الجانبين، أن يقبلا بمساعدة إقليمية أو دولية، وأن يوقف كل منهما التدخل في شؤون الطرف الآخر، خاصة بعد أن تبادل كل منهما الاتهام بتسليح الجماعات المسلحة في الأقاليم التي تندلع بها حرب أهلية وتمتد من دارفور إلى جبال النوبة والنيل الأزرق، وكان آخرها الهجوم الذي تم في منطقة بحيرة الأبيض بجنوب كردفان، والذي تتهم فيه الخرطومجوبا بتنفيذه مشتركة مع قوى سودانية متمردة بأكثر من 1500 عسكري، ورغم نفى المسؤولين في جوبا للاتهامات، هددت الخرطوم على لسان أكثر من مسؤول بحقها في الرد في الوقت المناسب، بعد أن قامت برفع شكوى إلى مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي واللجنة الأفريقية المختصة بمراقبة اتفاقية عدم الاعتداء بين البلدين. سيناريوهات المواجهة وإزاء هذا التصعيد يبقى السؤال: هل يمكن أن تنشب حرب جديدة بينهما، أو بمعنى آخر ما هي سيناريوهات المواجهة؟ قد يكون من الصعب عامة التكهن بالسلوك السياسي لأطراف الصراع، لأن هناك مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية التي تؤثر في مثل هذه القرارات، ولكن قد يتم اللجوء لفكرة السيناريوهات القائمة على ترجيح احتمال دون الآخر، استناداً لمجموعة من المعطيات. وفي محادثات طارئة للحيلولة دون وقوع حرب شاملة، اتفقت الدولتان على معاهدة عدم اعتداء امتثالاً لضغوط مكثفة من جانب الاتحاد الأفريقي والولاياتالمتحدة والصين لتجاوز لهجة وأساليب التصعيد المدمرة التي تنتهجانها. غير أن المحللين لا يرون حلولاً سهلة للشد والجذب المحموم بين البلدين بشأن النفط، ولم يتضح بعد ما إذا كانت معاهدة عدم الاعتداء تختلف عن الاتفاقيات الأمنية السابقة التى لم تنته إلى شيء. غير أن الإشارات التي تدعو إلى تصديق التوقعات بعودة الحرب كثيرة أيضاً بينها الحديث عن انتشار الجيش الشعبي على الحدود ما بين الشمال والجنوب؛ الأمر الذي اعتبره المراقبون خطوة قرعت بها دولة الجنوب طبول الحرب، لاسيما أن سلفا كير أعلن قبل أيام قليلة خطوة إعادة انتشار جيشه، ورفع درجة الاستعداد إلى الحد الأقصى وسط كل الوحدات العسكرية للجيش الشعبي، ودعاها إلى تعبئة الشعب لمواجهة المهدِّدات والمخاطر التي تحيط بالبلاد، محذراً الخرطوم من خوض حرب ضد بلاده. ليس الآن ولكن في المقابل يرى الخبير الأمني حسن بيومي أن لجوء البلدين لخيار الحرب يبدو أمراً مستبعداً. وقال إن الاستعدادات والحشود العسكرية عند حدود البلدين تأتي في سياق حالة التأهب والاستعداد. ووفقا لكثير من المراقبين فإن الحديث عن عودة الحرب لا يبدو منطقياً إذ أن الحرب تحتاج إلى مؤهلات وقدرات اقتصادية يفتقدها كلا الطرفين باعتبارها تمثل عبئاً سياسياً شاملاً بفعل تداخل عوامل عديدة، وليست فكرة تقليدية تنحصر في الدفع بجنود للقتال، دون تعبئة المجتمع وتهيئته للقتال. ومن جانبه أكد اللواء المتقاعد محمد العباسي "تضاؤل قدرة الدولتين بصورة واضحة على خوض غمار الحرب"، مشيرا إلى عدم امتلاكهما الكفاءة أوالإمكانات الاقتصادية لمواجهة تداعيات أي حرب محتملة. وقال إن الشروط للحرب بين الطرفين ما زالت غير متوفرة من الناحية التعبوية الداخلية، وليس من العقل والحكمة أن تحول كل دولة اقتصادها لاقتصاد حرب؛ لأن ذلك ليس في مصلحة الدولتين، وأيضاً لأن ذلك القرار لا يأتي هكذا اعتباطاً. وتابع أن الحرب تحتاج إلى التأييد الشعبي للنظامين، وهذا مفتقد لديهما معاً. وأضاف "لهذا، فالعودة للحرب ليست ممكنة". ويقول العباسي إن دولة الجنوب ليست لديها القدرة على إدارة حرب جديدة لعدم اكتمال هياكلها فضلاً عن تصاعد الخلافات الداخلية. كما أن دولة السودان محاصرة اقتصادياً ، لذا فإن العودة للحرب تبدو أمراً عصياً. وقال إن عودة الحرب بين الدولتين انتحار للنظامين. ويرى العباسي أن الحرب إذا اندلعت هذه المرة فلن تكون مثلما كانت قبل أن يقع الانفصال، حيث كانت وقتذاك بين الشمال والجنوب وبين جيش نظامي للشمال ومليشيات متمردة خارجة على الشرعية في الجنوب، لكن إذا ما اندلعت الآن ستكون بين دولتين وبين جيشين نظاميين، وستكون حينها حربا طاحنة. 3 سيناريوهات أحلاها مرّ هناك 3 سيناريوهات أساسية: • الأول: إمكانية نشوب مواجهات عسكرية، سواء محدودة في المناطق المهمشة، أو واسعة النطاق، بحيث تجتاز هذه المناطق لتشمل كل مدن الشمال والجنوب. • والثاني يتمثل في إمكانية نشوب حرب بالوكالة عبر متمردي كل طرف، والمدعومين من الطرف الآخر أو الحركات السبع المسلحة التي ترفض الانصياع لجوبا، ومن ثم يمكن أن يتم دعمها من قبل الشمال. • والسيناريو الأخير يكمن في استمرار التوتر دون حدوث مواجهات عسكرية، بل قد يدفع ذلك التوتر كلا الطرفين إلى التوصل إلى اتفاق سياسي ربما يكون محدود النطاق، ومقصوراً على مجال النفط، باعتباره القضية الأكثر إلحاحاً لكلا الطرفين لعدم استفادة أي منهما بهذا النفط بعد قرار جوبا تجميد التصدير عبر الشمال، وقد يكون هذا الاتفاق المحدود مقدمة لاتفاق سياسي أشمل يتضمن باقي القضايا، وفي مقدمتها المناطق المهمشة. وربما يكون السيناريو الأول مستبعدا إلى حد كبير لمجموعة من الأسباب الداخلية والدولية.. فداخليا يعاني كلا النظامين أوضاعاً سياسية وعسكرية، بل واقتصادية متدهورة، قد تجعل من الحكمة السعي لحلها بدلاً من فتح جبهة جديدة للقتال قد تسهم في زيادة إضعافهما. كما أن دول الجوار ستتأثر لا محالة بتداعيات هذه الحرب على كافة الأصعدة الاقتصادية والأمنية، فكينيا وإثيوبيا – وهما من حلفاء جوبا - ستخسران، وفق بعض التقارير الدولية عدة مليارات، حال نشوب هذه الحرب بسبب موجة النزوح واللاجئين من ناحية، فضلاً عن تراجع التبادل التجاري مع هاتين الدولتين من ناحية أخرى. وربما يفسر هذا أسباب لعب كلا البلدين دوراً مهماً في الوساطة بين الجانبين على هامش قمة الاتحاد الإفريقي الأخيرة في أديس أبابا.. كما أن مصر قد تتأثر سلباً هي الأخرى، في حالة اندلاع هذه الحرب بسبب تدفقات اللاجئين والأسلحة الشمالية عبر أراضيها، فضلاً عن تراجع الاستثمار، ومعدلات التبادل الاقتصادي، ومن ثم ستسعى هي الأخرى للعب دور الوساطة. وربما كان هذا أحد أهداف زيارة وزير الخارجية المصري لجوباوالخرطوم الشهر الماضي. أما دولياً، فإن الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها الدول الكبرى قد تجعل من الصعب عليها تحمل فاتورة الحرب، لاسيما فيما يتعلق بالجنوب. أما السيناريو الثاني، والحرب بالوكالة من خلال دعم قوى المتمردي ، فقد يكون وارداً، ولكن ليس بنسبة كبيرة، خاصة بالنسبة لدولة الجنوب التي قامت بذلك خلال الأشهر الستة الماضية، لكنها فشلت. وربما يكون هذا هو الشعور نفسه لدى الخرطوم، وإن كانت قد أعلنت صراحة أن الخطة "ب" في التعامل مع الجنوب تقوم على دعم المتمردين. أما السيناريو الثالث الخاص باستمرار التوتر دون حدوث مواجهات عسكرية، فربما يكون هو الأقرب للحدوث، في ظل المعطيات الداخلية والإقليمية والدولية إليها، بل قد يدفع هذا كلا الطرفين إلى التوصل إلى اتفاق اقتصادي، ربما يكون محدود النطاق ومقصورا على مجال النفط، باعتباره القضية الأكثر إلحاحاً الآن. ولعل توصل الطرفان مؤخراً في أديس أبابا وبوساطة أفريقية لاتفاق أمني ينص على "احترام كل منهما لسيادة الآخر ووحدة أراضيه وعدم التدخل في شؤونه الداخلية ورفض استخدام القوة يصب في هذا الاتجاه ويعد نواة إلى تسوية ملف النفط وما قد يستتبعه من باقي الملفات الشائكة.