يباشر الدكتور نبيل العربي، وزير الخارجية المصرية السابق، عمله الجديد كأمين عام لجامعة الدول العربية، وسط مواقف وتكهنات متضاربة حول اوضاع الجامعة ومستقبلها، فخلال شهر آذار (مارس) الفائت، صدر بيان عن البيت الابيض يرحب بالموقف الذي اتخذته الجامعة تجاه المسألة الليبية، عندما طالبت مجلس الأمن بفرض حظر جوي على ليبيا بغرض حماية المدنيين الليبيين. ورافقت ذلك مواقف متعددة صدرت عن جهات سياسية اميركية تحمل المضمون نفسه، أحدها لعضو مجلس الشيوخ الاميركي تشارلز شومر، الذي تنبأ بأن موقف الجامعة سوف يكون له الاثر الكبير على مداولات مجلس الامن بصدد مسألة الحظر الجوي (Wall Street Journal 14/3/2011). وخلال شهر حزيران (يونيو) الفائت، علقت سوزان رايس، مندوبة الولاياتالمتحدة الدائمة في الاممالمتحدة، أهمية زائدة على موقف الجامعة تجاه المسألة الليبية، عندما تقدمت ب «الطلب الاسثتنائي والخاص» الى مجلس الامن كي يتدخل من أجل توفير الحماية للمدنيين الليبيين» («الحياة» - 9/6/2011). إضافة الى هذه المواقف الاميركية، صدرت مواقف مماثلة عن زعماء وقادة أوروبيين، كان من أهمها ما جاء على لسان اندرس فوغ راسموسن، الامين العام للحلف الاطلسي، في حديث ادلى به خلال شهر حزيران (يونيو) ايضاً، اذ قال رداً على سؤال عما اذا كان الحلف مستعداً في حال «سقوط العقيد القذافي» ان يتولى مسؤولية إدارة الاوضاع في ليبيا بصورة مؤقتة حتى قيام حكومة شرعية تمثل الليبيين، إن هناك ثلاثة شروط، منها توفر تأييد عربي صريح لهذه الخطوة (صحيفة «الغارديان» - 16/6/2011). اعتُبرت هذه المواقف دليلاً على الأهمية التي توليها دول كبرى ومنظمات دولية ورسمية غربية للجامعة العربية، وبالتالي مؤشراً على النظرة الدولية الى هذه المنظمة الاقليمية، وعلى مصداقيتها في سوق السياسة العالمية، ومن ثم على الحاجة اليها كمنبر جماعي لمخاطبة الدول والحكومات الاخرى. ولكن تعقيباً على هذه المواقف وعلى الاوضاع العامة لجامعة الدول العربية، خاصة في مرحلة الثورات العربية، لوحظ انها ليست المرة الاولى التي يتذكر فيها مسؤولون غربيون الجامعة العربية، فهم يفعلون ذلك عندما تأتي مواقف الجامعة متطابقة مع المواقف الغربية. بالمقارنة مع هذه الحالات، فإن الذين رحبوا بالموقف العربي في الغرب سرعان ما يقللون من أهمية الجامعة ويتبعون تجاهها سياسة سلبية عندما تتخذ مواقف متعارضة مع السياسات الغربية، خاصة على صعيد الصراع العربي-الاسرائيلي. ولما كانت اكثر المواقف التي تتخذها الجامعة على هذا الصعيد مناصرة للفلسطينيين وناقدة لاسرائيل، فان السياسة الغربية تجاه الجامعة العربية وتجاه مؤسسات العمل العربي المشترك مطبوعة بالسلبية، اما العبارات الإيجابية، فهي الاستثناء الذي لا تبنى عليه المواقف. تأسيساً على ذلك، فإن من الخطأ إعارة التصريحات الغربية المتعلقة بموقف الجامعة من المسألة الليبية، أهميةً استثنائية واعتبارها عاملاً رئيسياً يؤكد مصداقية الجامعة والحاجة اليها كإطار لتنظيم علاقات الدول العربية بالمجتمع الدولي او دول الغرب. إنه مؤشر من المؤشرات المتعددة التي يمكن الرجوع اليها عند التفكير بمستقبل الجامعة. ومن بين هذه المؤشرات المتعددة يمكن ادراج مؤشرات وعوامل دولية وعربية معاً. اولاً، يعتقد البعض أن فشل الجامعة في الاضطلاع بالمهمة التي أُسست من أجلها، وهي التنسيق بين الدول العربية وتحقيق التعاون بينها، سوف يؤدي الى زوال الجامعة بعد ان زالت مبرراتها، وبعد مرحلة الثورات العربية ودخول المنطقة مرحلة جديدة. ولكن هذه النظرة تنطلق من فرضية غير صحيحة، فمن قال ان الحكومات العربية تريد فعلاً التنسيق الحقيقي في ما بينها؟ واذا كان هذا ما تريده الحكومات العربية فعلاً، فلن تقف الجامعة عقبة تعترض هذا الطريق. ثانياً، إن الجامعة سوف تبقى، لأنه رغم التراجع المستمر الذي اصاب الفكرة العربية التي قامت هذه المنظمة على أساسها، فإنها - اي الفكرة - لا تزال تشكل مصدراً، ولو في حدود ضيقة، لشرعية الحكومات والحكام. ومن ثم، فإن إلغاء الجامعة في الظروف الراهنة، سوف يضعف مشروعية الحكومات ولن يفيدها. وفضلاً عن ذلك، فان الحفاظ على الجامعة مع إضعافها وحرمانها من الفاعلية، يحقق أفضل الفوائد لمناهضي الفكرة العربية، عندها يستطيعون تقديم الجامعة كدليل حي على «افتقار الفكرة العربية للصدقية». ثالثا، للجامعة وظيفة مهمة في السياسة العربية، ألا وهي وظيفة الشمّاعة، فالدول العربية تنسب الى نفسها تحقيق الانجازات في كل شيء، وبالمقابل تضع اللوم والمسؤولية على الجامعة عند الحديث عن الاخفاقات والتراجعات. ألم تحمَّل الجامعة العربية مسؤولية هزيمة 1948 في فلسطين؟ وبحسابات عقلانية، فإن كلفة استمرار الجامعة أقلّ من إنهائها بقرار، فمن لا يأبه للجامعة او الذي يضيق بها، وبالتطلعات التي أدت الى قيامها، من الأفضل له ان يبقيها على حالها من ان يتخذ قراراً بإنهائها، وان يتحمل مسؤولية إلغاء آخِر أثر للشخصية العربية الجماعية. رابعاً، على الصعيد الدولي، يمكن اعتبار استمرار الاتجاه الدولي نحو بناء «عالم الأقاليم» مؤشراً مهماً على مستقبل مشاريع الأقلمة في المجتمع الدولي. لقد كانت بروكسل هي عاصمة هذا الاتجاه، والاتحاد الاوروبي هو المصنع الرئيسي للأقلمة. في الظروف الراهنة، وبينما تعاني اوروبا من مضاعفات الأزمة الاقتصادية العالمية ومن الازمة اليونانية بصورة خاصة، وكذلك من صعود القوميين المتطرفين المعادين للفدرالية الاوروبية، فقد انتشرت التحليلات المتشائمة حول مستقبل المشروع الفدرالي الاوروبي. ولكنها ليست المرة الاولى يصطدم فيها هذا المشروع بعقبات، وفي كل مرة وجد الأوروبيون أن المخرج هو بالمزيد من التعاون والتوحد وليس العكس. هذه المرة، سوف يجد الاوروبيون ان حل الازمات الاقتصادية يقتضي فرض الانضباط المالي على دول اليورو وتعزيز العلاقات في ما بينها، وهذا سوف يؤدي الى قيام اتحاد اوروبي «بطابقين»: واحد للدول الراغبة في المزيد من الاندماج، وآخر للتي تعارضه وتريد احباطه من الداخل. هذا الانقسام سوف يزيد من فاعلية القاطرة الاتحادية الاوروبية. لعل ما يفوق التطورات الاوروبية، هو ما يجري اليوم في شرق آسيا حيث تتطور مشاريع الأقلمة تطوراً متسارعاً. تنعكس هذه التطورات على التجارة الآسيوية البينية، حيث باتت الاسواق الآسيوية نفسها تستهلك 52% من صادرات الدول الآسيوية، بينما لا تزيد صادراتها الى اوروبا وشمال القارة الاميركية عن 35% من مجمل صادراتها الخارجية. وينعكس نمو الأقلمة ومشاريع الاندماج الاقليمي الآسيوي ايضاً على نمو رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وهي اهم منظمات التعاون الاقليمي في القارة الآسيوية، فهذه الرابطة كانت تعتمد على مؤسسات اقليمية بسيطة. والآن أخذت «آسيان» في سلوك طريق المأسسة بسرعة. هذه التطورات جديرة، في رأي علماء السياسة والمحللين، بأن تؤثر على مستقبل العلاقات الدولية مثلما أثّرت موجة القوميات على الاوضاع العالمية، فاتجه الكثير من الشعوب والأمم الى بناء الكيانات القومية على أساس أنها الأجدر بحماية مصالحها وحقوقها. وسوف يتأكد المزيد من العرب، خاصة الذين تتاح لهم فرصة الاحتكاك بالمجتمعات الاخرى، انه في عالم العمالقة والكيانات والاتحادات الاقليمية الكبرى، سوف يحتاجون الى المزيد من الجامعة العربية وليس الى التقليل منها او الى تغييبها. ثانيا، سوف تكتشف الدول والحكومات الاوروبية - خارج اطار التجربة الليبية - ان حوض البحر الابيض المتوسط زائد جامعة الدول العربية، هو افضل بكثير من المتوسط من دونها. إن الاوروبيين يراقبون بقلق شديد احتمال تدفق المهاجرين العرب من دول الجنوب الى مدن الشمال، وبينما يخشى الاوروبيون النتائج السياسية البعيدة المدى لمثل هذا الاحتمال، وخاصة صعود اليمين المتطرف المناهض للديموقراطية على أجنحة الحملات العنصرية والمعادية للعرب، سوف يجدون ان وجود منظمة اقليمية تجمع العرب، مثل جامعة الدول العربية، وتقويتها يقدمان افضل الضمانات نحو ايجاد حلول معقولة لقضايا الهجرة العربية الى اوروبا وأرسخ الحلول لسائر القضايا العالقة بين الاوروبيين والعرب، وإلا فإن «الألفيات الثلاث من التطاحن والحروب عبر المتوسط سوف تكرر نفسها من جديد، بحيث يغرق فيه سكان الشمال والجنوب معاً»، كما تقول مجلة «الإيكونوميست» البريطانية (7/5/2011). هذه المؤشرات ترجح بقاء الجامعة وليس زوالها. ولكن بقاء الجامعة لا يعني كسباً او تقدماً تحققه الفكرة الرئيسية التي قامت على اساسها. مثل هذا التطور مرهون الى حد بعيد بالجديد الذي تشهده الارض العربية، خاصة في البلدين اللذين استضافا الجامعة العربية، اي مصر وتونس، حيث تحرر المواطنون من الاستبداد. فهل تتحرر الجامعة من الشلل والعجز في عصر الثورة وفي عهدة الامين العام الجديد الذي يحظى بمكانة مرموقة لدى الرأي العام المصري؟ * كاتب لبناني