لم تكن الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام عادية في بريطانيا. فظاهرة عنف المدن بلغت مستويات قياسية، وذلك بعد مقتل 47 شخصاً في جرائم عنف في لندن، أكثر من نصفهم في العشرينات من العمر، بينهم 12 شخصاً قتلوا خلال 19 يوماً فقط في موجة لا سابق لها. ووفقاً لشرطة متروبوليتان، فقد قتل 8 أشخاص في كانون الثاني (يناير) و15 شخصاً في شباط (فبراير)، و22 شخصاً في آذار (مارس)، واثنان في الأيام الثلاثة الأولى من نيسان (أبريل) الجاري، لتتجاوز بذلك معدلات القتل في العاصمة البريطانية للمرة الأولى مثيلتها في نيويورك. العنف في لندن، خصوصاً الطعن باستخدام سكين أو مدية، في تزايد ملحوظ، فمن بين ال47 ضحية، 31 قتلوا طعناً في الشوارع. وخلال الأعوام الثلاثة الماضية ارتفعت معدّلات العنف والجريمة وسط المراهقين نحو 40 في المئة. يمكن إلقاء اللوم على عوامل كثيرة، من بينها الاستقطاعات الحكومية للشرطة ما أدّى إلى تقليل عدد عناصرها، إضافة إلى تقليص الدعم المالي الحكومي للمشاريع المخصصة للمراهقين والشباب لحمايتهم من الانخراط في الجرائم. لكن بالنسبة إلى كريسيدا ديك، رئيسة جهاز الشرطة في بريطانيا (سكوتلانديار)، فإن جانباً كبيراً من اللوم يجب أن يتجه إلى شبكات التواصل الاجتماعي. وكما ترى ديك، فإن المواقع الإلكترونية وتطبيقات الهاتف الخليوي، و «يوتيوب» و «سناب شات» و «انستغرام» مسؤولة جزئياً عن إراقة دماء في شوارع بريطانيا وسط المراهقين وصغار السن. «فكل نزاع أو خلاف تافه يمكن أن يتحوّل في غضون دقائق إلى معركة دامية، عندما يبدأ المراهقون في إشراك بعضهم بعضاً على وسائل التواصل الاجتماعي»، كما توضح. وتضيف في مقابلة مع صحيفة «ذي تايمز» قبل أيام، «ما نلاحظه هو أن لوسائل التواصل الاجتماعي تأثيراً فيما يتعلّق بتصعيد الغضب ودفع الأشخاص لتحويل خلاف طفيف إلى مواجهة دموية بسرعة كبيرة جداً». وعلى غرار قدرة هذه الوسائل على تحويل أشخاص عاديين إلى متطرّفين إسلاميين خلال فترة وجيزة، ترى ديك أن شبكات التواصل تساهم أيضاً في تحويل مراهقين ليس لديهم سجل إجرامي إطلاقاً إلى قتلة خلال موجة غضب عابرة. وفي مختلف حالات القتل طعناً بسكاكين وسط المراهقين في لندن أخيراً، تلاحظ شرطة سكوتلانديار نمطاً متقارباً جداً من السلوك والتأثيرات. فغالباً ما ينشب خلاف طفيف في البداية بين شخصين أو مجموعتين، ثم يتطوّر الأمر بسرعة عندما يتم تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تبدأ عمليات تهديد وشحن وإهانات عبر الإنترنت تُحوّل العنف اللفظي إلى جسدي. وبسبب سرعة تداول الأخبار على الشبكة العنكبوتية تتطور المواجهات على الأرض قبل أن تجد الأطراف المتورّطة فيها فرصة للهدوء أو للتفكير في عواقب أفعالها. ففي آب (أغسطس) الماضي، قتل مراهق في ال15 من عمره في منطقة ثورنتون هيث، جنوب شرقي لندن، بعدما انتشر فيديو على «يوتيوب» لخلاف بين جماعتين، ينتمي الضحية إلى أحدهما. وعلى الفور تصاعدت المواجهة «أونلاين»، وشنّ مجموعة من المراهقين هجوماً جماعياً أدى إلى مقتل الفتى خنقاً. «تقييد» الخدمة ومدتها الجدل حول العلاقة بين عنف المراهقين في المدن ووسائل التواصل الاجتماعي، لا يمكن إلا أن يؤدّي إلى زيادة الضغوط على شركات شبكات التواصل، وهي ضغوط تتزايد يومياً وتعزز التيار الداعي إلى «تقييد» عمل تلك الشركات والشبكات بقوانين ملزمة تحمي المستخدمين وغالبيتهم من صغار السن. ووفقاً لآخر الإحصاءات في بريطانيا، فإن ثلث مستخدمي الإنترنت هم دون سن ال18 سنة. أما الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و15 سنة، فيمضون أكثر من 20 ساعة أسبوعياً على الإنترنت. وأشار استطلاع آخر إلى أن لدى حوالى 75 في المئة من الأطفال (10- 12 سنة) حسابات على شبكات التواصل. ومع تزايد معدلات الجريمة بين المراهقين، ومشكلات الصحة العقلية والنفسية وارتفاع معدلات الانتحار بين صغار السن، بدأت الحكومة البريطانية في بحث مقترحات من أجل إقرار قانون يحدّ من الوقت الذي يمضيه الأطفال على منصات وسائل التواصل الاجتماعي وسط قلق من أثار الإفراط في استخدامها. ووفقاً لمشروع قانون مقترح، سُيسمح للأطفال دون ال16 سنة بتمضية ساعات محددة يومياً أمام شبكات التواصل الاجتماعي، بحيث تقطع الخدمة إذا ما تجاوزوا الوقت المحددة لهم. ويقول مات هانكوك، وزير الدولة لشؤون التكنولوجيا الرقمية والإعلام والرياضة، صاحب مشروع القانون المقترح، إنه يريد «تحديد ساعات تتفاوت بحسب السن» لاستخدام خدمات «فايسبوك» و «انستغرام» و «سناب شات». ويوضح: «هناك قلق حقيقي بسبب الوقت الذي يمضيه الأطفال والمراهقون أمام شاشات شبكات التواصل والتأثير السلبي الذي قد يخلّفه على حياتهم. من الصواب أن نفكر في ما يمكننا القيام به أكثر في هذا المجال». وستفرض القيود على ساعات الاستخدام عبر شرط قانوني يُفرض على شركات شبكات التواصل لضمان أن تكون سن الشخص الذي يفتح حساباً على هذه المواقع أكبر من 13 سنة. ولم تتبلور بعد تفاصيل القانون المقترح، لكن من المحتمل أن يوسّع القانون لضمان عدم استخدام المواقع الإباحية لمن هم دون ال18 سنة، عبر بند ينص على إدخال بيانات بطاقة المصرف الائتمانية. وعلى رغم أن «فايسبوك» و «انستغرام» و «توتير» جعلت سن ال13 سنة الحد الأدنى لإنشاء حساب شخصي، إلا أنه لا يشترط لإنشاء حساب سوى أن يدخل الأطفال تاريخ ميلادهم فقط، وهذا يمكن تزويره بسهولة. وتؤكّد الاستطلاعات إن غالبية صغار السن يكذبون فعلاً في أعمارهم عند إنشاء حسابات لهم على شبكات التواصل. ففي استطلاع حديث أجري في بريطانيا، قال 25 في المئة ممن تتراوح أعمارهم بين 8 و16 سنة أنهم تجاهلوا شرط الحد الأدنى للسن لتسجيل حسابات لهم على «فايسبوك». ومع أنه لدى معظم شبكات التواصل الأدوات التكنولوجية اللازمة لتحديد من هم المستخدمون القُصّر، عبر تحليل عاداتهم في التصفّح، إلا أنها لا تسعى للتدقيق في أعمار المستخدمين الجدد أو صحة المعلومات التي يسجلونها عن أنفسهم. وبموجب قوانين حماية البيانات في أوروبا، يجب على الآباء الموافقة على إنشاء حسابات على شبكات التواصل وتداول معلومات أبنائهم الذين هم دون ال13 سنة، وإذا فشلت مواقع التواصل الاجتماعي في الحصول على إذن من الآباء فإنها تخاطر بملاحقتها قانونياً. لكن نادراً ما يطبّق هذا القانون. ويوضح هانكوك: «يجب على مسؤولي شبكات التواصل معرفة أعمار الأطفال الذين يرتادون مواقعهم. بالنسبة إلى شخص بالغ، لا أريد تقييد الوقت الذي يمضيه في التصفّح، على رغم الآثار السلبية لذلك. لكن ربما يكون من الصواب أن يكون هناك تباين في الأوقات وفق العمر». وفي ضوء مقترحات أولية تناقش في بريطانيا حالياً، يرجّح أن تكون مسؤولية التأكّد من عمر الأطفال الناشطين «أونلاين» على عاتق شركات التواصل الاجتماعي، فأرباحها بالبلايين ولديها القدرة المالية والتكنولوجية على القيام بذلك. ومن الأفكار المطروحة للمناقشة، تطوير موقع للتحقق من سن من يريد إنشاء «بروفايل» على أحدى منصات التواصل الاجتماعي. وبموجب هذا المقترح سيصدر «كود» أو رمز يجب إدخاله عند تسجيل الآباء لأطفالهم على المواقع، بحيث يُمنحون القدرة على تقييد الوقت الذي يمضيه أطفالهم وهم يسبرون أغوار الصفحات. مثل التدخين والسمنة ولا تقتصر الآثار السلبية لاستخدام الأطفال والمراهقين وسائل التواصل الاجتماعي ساعات طويلة على زيادة معدّلات العنف والجريمة. فخلال الشهر المنصرم، حذّر وزير الصحة البريطاني جيريمي هانت من أن الاستخدام المفرط لوسائط التواصل يشكّل تهديداً كبيراً لصحة الأطفال مثل التدخين أو السمنة تماماً. كما ربط تقرير صادر عن الجمعية الملكية للصحة العامة في العام الماضي بين هذه الوسائل وتزايد القلق والاكتئاب بين الأطفال والمراهقين. وتشير آخر الإحصاءات إلى أن حوالى مليون طفل تحت سن ال16 سنة يعانون من اضطرابات نفسية بسبب الاستخدام المفرط للشبكات. ووفقاً لخدمة «تشيلد لاين»، وهي خدمة حكومية مجانية للأطفال الذين تراودهم أفكار الانتحار، فأن أكثر من 22 ألف طفل اتصلوا خلال عام 2017 بالخط الساخن للحديث عن رغبتهم في الانتحار، أي طفل كل 20 دقيقة. وفي غالبية الحالات كانت مضايقات تعرّضوا لها «أونلاين»، أو الشعور بالاكتئاب نظراً لطول ساعات استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، هو السبب وراء شعورهم بالرغبة في الانتحار. وهذه كلها ليست ظواهر بريطانية خالصة بل عالمية. ففي الولاياتالمتحدة تؤكد الإحصاءات العلاقة بين عنف مراهقي المدن وشبكات التواصل. وفي اليابان وكوريا الجنوبية هناك ارتفاع كبير لحالات انتحار المراهقين المرتبطة بهذه الشبكات. وفي روسيا تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن وسائل التواصل تشجع على الانتحار، خصوصاً ظاهرة الانتحار الجماعي، ما أدى إلى زيادة معدلات الانتحار وسط المراهقين بنسبة 57 في المئة. وفي ظل كل ما تقدّم، لا عجب أن يعترف رؤساء شركات شبكات التواصل ألاجتماعي، مثل رئيس «فايسبوك» مارك زوكربيرغ، أن الآوان قد حان لتشريعات تضبط عمل هذا الأخطبوط من الشبكات التي تعمل حالياً من دون ضوابط. استخدام مفرط ... وأرقام - وفقاً لآخر الإحصاءات، فإن ثلث مستخدمي الإنترنت حالياً في بريطانيا من المراهقون دون ال18 سنة. - يمضي الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و15 سنة أكثر من 20 ساعة أسبوعياً على الأنترنت. - يملك حوالى 75 في المئة من الأطفال بين 10 و12 سنة حسابات على شبكات التواصل. - كشف 25 في المئة ممن تتراوح أعمارهم بين 8 و16 سنة، أنهم تجاهلوا شرط الحد الأدنى للسن لتسجيل حسابات على «فايسبوك». - يشير آخر الإحصاءات إلى أن حوالى مليون طفل دون ال16 سنة يعاني من اضطرابات نفسية بسبب الاستخدام المفرط لشبكات التواصل.