الأرجح أنه لولا صحافة الورق، لتابعت أسهم «فايسبوك» سقوطها في البورصة، لكن الاعتذار إلى الجمهور عبر الصحافة التقليديّة البريطانيّة، لم يكن سوى دليل آخر على عمق الأزمة التي يعانيها ذلك الموقع الذي يعتبر الأبرز في ال «سوشال ميديا». وحتى الآن، لا يبدو أن شيئاً ينجح في وقف التدهور المستمر في علاقة الجمهور (خصوصاً في أميركا وأوروبا) مع «فايسبوك»، بل أن حملة انطلقت تحت «هاشتاغ» (#حذف_فايسبوك)، تصاعدت، ونبهت الجمهور إلى عدم استسهال الأزمة عبر حلول سريعة كالانتقال إلى موقع «آنستغرام» لأنه مملوك من «فايسبوك». تذكيراً، تفجرت أزمة سمعة «فايسبوك» بعد فضيحة تثبت فيها أن شركة مرتبطة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب (تحديداً، عبر مستشاره السابق للأمن القومي ستيف بانون) هي «كامبريدج آناليتكا» البريطانية، حصلت عليها من «فايسبوك» على بيانات 50 مليون شخص، واستخدمتها للتلاعب بميول الرأي العام في الانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة في 2016، وكررت ذلك في الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في السنة عينها. إذ استخدمت «آناليتكا» برنامجاً طوّره خبير معلوماتيّة روسي اسمه آلكسندر كوغان، وسمّاه «ذيس إذ يور ديجيتال لايف» (ترجمة الاسم حرفيّاً هي «تلك هي حياتك الرقمية»)، ما مكن خبراء «آناليتاكا» من الاستفادة مراراً وتكراراً من بيانات الجمهور على ال «سوشال ميديا». وزاد في تعميق جراح «فايسبوك» أن تحقيقات أجراها القضاء البريطاني توصلت إلى أن «فايسبوك» أُحيط علماً منذ سنوات، بانكشاف بيانات الجمهور على شبكته الاجتماعيّة، لكنه لم يفعل ما يكفي لحماية بيانات الجمهور وملفاته. وفي سياق فضحية «آناليتكا»، اعترف ساندي باراكليس، وهو خبير كان مسؤولاً على قسم التطوير التقني في «فايسبوك»، أنه بمجرد خروج بيانات الجمهور من خوادم تلك الشركة الموجودة في مقراتها المختلفة، لا تعود الشركة قادرة على معرفة مصيرها. والأنكى أنه أقرَّ بأن «فايسبوك» يعلم ذلك، لكنه لم يعترف بذلك علناً. وأثبت ذلك الاعتراف أيضاً أن «فايسبوك» لا يتصرف في شكل مسؤول تجاه حماية بيانات الجمهور على شبكته للتواصل الاجتماعي. وأمام البرلمان البريطاني الذي استدعاه من أميركا لاستجوابه رسمياً، أقرَّ مارك زوكربرغ، مؤسّس «فايسبوك» ومديره، أن عدم قدرته على حماية البيانات الشخصيّة لخمسين مليون مستخدم لموقعه، هو «خيانة الأمانة». (أنظر «الحياة» في 23 و31 آذار (مارس) 2018). في البداية كانت السهولة الخادعة! بعد الاعتراف العلني بالإخفاق وخيانة ثقة الجمهور، لم يكن ممكناً سوى أن تتدحرج كرة ثلج جارفة قوامها أزمة سمعة «فايسبوك»، بل هي تصلح نموذجاً عن تلك الظاهرة. وبنظرة استرجاعية، يمكن القول إنه منذ انتشاره السريع قبيل مطلع القرن 21، سمح الإنترنت لمجموعة كبيرة من المنسيّين إعلامياً بأن يصبحوا من المشاهير. وبدأت محطات التلفاز تكتشف تلك الأسماء عبر الشهرة التي اكتسبوها من مواقع ك «يوتيوب». لذا، صار ممكناً القول إن ال «ويب» بات الفضاء الأساس للظهور الفردي خارج نطاق المؤسّسات والنُظُم المعتمدة حتى الآن. يشمل ذلك شبكات الإعلام، ومؤسّسات النشر ودوره، وشركات تسجيل الأسطوانات وغيرها، من المؤسّسات المُحتكِرة للإنتاج الفني والثقافي على أنواعه. وتهدف غالبيّة الأشخاص «المنسيّين» إلى امتلاك وجود ما على المنصات الإلكترونيّة لتحقيق ذواتهم، وكي يُعرفوا على أساس أنهم يشكلون جزءاً من النسيج الاجتماعي المشبوك رقمياً. وهناك طرق مختلفة للصعود عبر ال «ويب»، وهي جزء من النقاش عن نظام السمعة الفردي الذي يتطور على ال «نت» في شكل واضح وسريع. إذ يعرف الهُواة كيف تبنى السمعة رقمياً، ويرسونها على أساس قوامه شبكة كبيرة من التفاعلات مع عدد كبير من الناس. وبات قياس مدى قوّتهم التفاعليّة سهلاً عبر مجموعة من الأدوات الموجودة على الإنترنت لقياس ذلك النوع من العروض والمشاهدات وغيرها. ويشمل ذلك حساب المشاهدات والمستمعين والناشرين، وعدد الزائرين، وتعليقات الأصدقاء وسواها. كذلك تتيح تلك الأدوات تحديد درجة الشهرة مقارنةً مع آخرين. ويصنع المبدعون من الهواة سمعتهم الشخصيّة لوحدهم، عبر صنع شبكات من المعارف، تضمن استدراج أعداد من إشارات ال «لايك»، ومعرفة من وضع إشارة الإعجاب على عمل معين. يعتبر ذلك النظام في تحديد نسبة التبادل بمثابة أداة من أدوات منطق تنظيم السمعة. أبعد من الافتراضي في ذلك السياق، يظهر سؤال عن المدى الذي تستطيع تلك السمعة أن تصله، بمعنى قدرة المبدعين على استعمال الإنترنت في الوصول إلى مساحات ومؤسّسات خارج الفضاء الافتراضي. وفي الواقع، يلاحظ أن صُنّاع الثقافة والإعلام بدأوا بالتفتيش عن أولئك الأشخاص، كي يصبحوا من العاملين معهم، كي تنتقل سمعتهم الرقمية معهم. وكذلك انخرط الطباخون في كتابة الكتب، والموسيقيون في تسجيل الألبومات، والمصورون في بيع إنتاجاتهم إلى المجلات، ما أدّى إلى تعاون وتلاقٍ بين ال «ويب» ومروحة واسعة من المحترفين. وعلى رغم ذلك، ما زال البعض مصمّماً على البقاء على ال «ويب» حصرياً، بل يعتبرها المكان الذي يوجد فيه الناس، ما يعني أن من ينجح على ال «ويب» يحصد كثيرين من المشجعين. وفي السياق عينه، من المهم التمييز بين السمعة وبين تشكيل صورة مهنيّة «ملمّعة» من قبل أشخاص يسعون كي يصبحوا شخصيات عامّة. يجدر التمييز بين صنع السمعة من جهة، والبحث عن الشهرة مهما كانت الوسيلة من الجهة الأخرى، بل لجأ بعض الساعين إلى البريق بأي ثمن إلى ممارسات استفزازيّة تعتبر «سيئة السمعة» لتجميع الانتقادات وزيادة الشهرة! وإذا كان من مجال يتغذّى على السمعة فهو بكل تأكيد المجتمع العلمي الأكاديمي. إذ تهيمن الشهرة والتكريم والائتمان والمكانة العلميّة على ذلك المجال. ويندفع الباحثون والجامعيون نحو تلك الأنواع من المكافأة الرمزية أكثر بكثير من اندفاعهم نحو التحصيل المادي والربح من وراء العمل البحثي. وفي المقابل، يقضي أولئك الأكاديميون وقتاً طويلاً في تخطيط برامج مؤسّساتية هدفها الإبداع والمحافظة على تطوّر مصداقيتهم العلميّة. تشابك النشر والقياس والتأثير و... إشارات ال «لايك» يتعلّق المستوى الثاني من السوق العلمي المعاصر وأدوات قياسه، بالتأثير الحسابي الذي يدير نُظُم الاقتباس. إذ تتيح الشبكة الضخمة المترابطة للمقالات العلميّة بقياس «مُعامِل التأثير» وسلطة مقالة ما منشورة، استناداً إلى عدد المرّات التي استُشهد فيها أو اقتُبس منها في مقالات أخرى. وعلى نطاق واسع، يُنظَر إلى تلك الشبكة من الاقتباسات بوصفها من أسس سوق العلوم الحديث، بل إنها تؤمّن بقاء المجلات العلميّة المحكمة التي تتمتع بسمعة إيجابية لدى العلماء والقرَّاء سوية. كذلك باتت شبكة الاقتباسات شبيهة بالنشاط التجاري الضخم الذي تهيمن عليه بعض المؤسّسات ودور النشر العلميّة العالميّة على غرار «سبرنغير» Springer و»تايلور» Taylor وغيرهما. وتتاجر تلك المؤسسات بالأدوات البيبليوغرافية المختلفة، فتنتجها وتبيعها على بواباتها الإلكترونيّة غير المجانية، ضمن ما يسمّى بال «ويب» المعرفي Web of Knowledge . نصف قرن من القياس استهل تطور أدوات القياس العلميّة (يطلق عليها بالفرنسيّة مصطلح «ساينوميتري» scientométrie) في حقبة الخمسينيات من القرن العشرين. ووفق التسمية، تمثل «ساينوميتري» طريقة القياس الكمي للإنتاج العلمي. وأتاحت استخدام قياس موضوعي للسمعة الأكاديمية التي لها «مُعامِل تأثير». واستطراداً، كلما امتلك الباحث سمعة تراكمية عالية، يكون له «مُعامِل تأثير» أكبر، لأن بحوثه العلميّة مُقتبس منها ومُستشهد بها في دراسات وبحوث أُخرى، ومنشورات علميّة لها مستوى علمي متقدم. إذاً، لا يكفي نشر كتبٍ ومقالات في دار نشر أو مجلة، إلا إذا امتلكت جهة النشر مصداقية وموثوقية عالية. وتشبه البحوث العلميّة لعبة مشبوكة، فلا يكون للبحث قيمة فعلية إلا إذا كان مستأنفاً من قبل آخرين. ولدى التأمل في حال بعض دور النشر، خصوصاً في العالم العربي، يظهر أنه من الممكن لأي شخص يمتلك 500 دولار أميركي أن ينشر ما يريد، بل تنعقد له حفلات تواقيع وندوات نقاش، من دون الأخذ في الاعتبار القيمة العلميّة لذلك المنشور العلمي، والجدوى منه التي يفترض أنها تخرج عن مجرد إصدار كتاب وأخذ الصور ووضعها على الانترنت. وفي الفضاء الافتراضي، تنال تلك الأشياء أعداداً من شارات ال «لايك»، ما يقود إلى تشكل شهرة وسمعة زائفتين. وتذكيراً، تشير بديهيات منهج البحث العملي، إلى أن كل ما بني على زائف يؤدي إلى نتائج زائفة. بالاختصار، أدى دخول قياس «مُعامِل التأثير» إلى عالم البحوث، إلى ظهور أبعاد جديدة تتعلق بالمنافسة والحساب، وذلك ما دفع في الوقت ذاته إلى كثرة الاقتباسات الذاتيّة من أجل تجميع أكبر قدر ممكن من النقاط التي تدخل ضمن نطاق الحساب الكمي، وتساهم تالياً في رفع درجة المؤشر التأثيري للباحث. * أكاديمي لبناني في ألسنيَّات الكومبيوتر.