في عام 1843، بدأ الشاعر والكاتب الفرنسي جيرار دي نرفال رحلته الشهيرة الى الشرق. وذات يوم، حين كان واقفاً في مصر بالقرب من أهرامات الجيزة يتأملها، راح يفكر ملياً في كل الامور الغامضة التي عاشها وعرفها في حياته. راح يفكر بالسحر والسحرة. ثم فكر خصوصاً بالآلهة الفرعونية ايزيس التي راحت بالنسبة اليه تتخذ سمات حبيبته الضائعة جيني... ثم سمات فينوس. ومنذ ذلك الحين، واذ عرف دي نرفال ان سنواته الباقية لن تكون طويلة، قرر ان خير ما يفعل مذّاك وصاعداً، هو ان يكتب قصصاً وأشعاراً وحكايات حافلة بالتحولات والسحر وضروب الغموض. وكان هذا، بالفعل ما حدث، إذ منذ انتهاء رحلته الشرقية وعودته الى فرنسا، انصرف الى كتابة بعض اجمل رواياته وقصصه التي، اذ وصلت الى ذروتها في «اوريليا»، اتسمت كلها بغرائبية مدهشة. طبعاً لا يمكن القول هنا ان كل افكار تلك النصوص كانت من بنات افكار دي نرفال، لكن الكاتب، حتى حين كان يستعير موضوعاً من آخرين سبقوه اليه، كان يستوعبه تماماً ويعيد الاشتغال عليه بحيث سرعان ما يصبح منتمياً كلياً الى مواضيعه الخاصة. ويمكن قول هذا، في شكل خاص، عن عدد من القصص التي كتبها صاحب «رحلة الى الشرق» خلال السنوات الخمس الاخيرة من حياته وأبرزها: «الشيطان الاحمر» و «الاجندة الغرائبية» و «الشيطان الاخضر». ولكن اذا كان ثمة عمل لدى نرفال كتب في ذلك الحين ويلخّص وحدة اسلوب هذا الاديب وتوجهه، فإن لدينا «اليد السحرية» وهي قصة طويلة نشرت للمرة الاولى عام 1852. في البداية، لا بد من الاشارة الى ان نرفال استعار موضوع هذه القصة من حكايات هوفمان التي كان يعرفها جيداً. والموضوع المستعار هو موضوع يد تتصرف وحدها من دون اذن صاحبها، تورطه في الكثير من المشكلات بعدما كان المطلوب منها ان تساعده في حل مشكلاته. ان دي نرفال يقبض هذه الموضوعة في شكل جدي، غير انه في الوقت نفسه يبدو، بين الحين والآخر، في ثنايا القصة، ساخراً متهكماً كأنه يدعو قارئه الى عدم تصديقه قائلاً له انهما يعرفان معاً ان الأمر لعبة. ولسوف نرى لاحقاً ان القضية في هذه القصة، ليست قضية اليد السحرية ولا ما تفعله بصاحبها، بل قضية المناخ الذي يصوره الكاتب - الشاعر في هذا النص. المناخ هنا هو باريس خلال السنوات الاولى من القرن السابع عشر. في تلك ال «باريس» التي يقدم لنا الكاتب منذ الصفحات الاولى وصفاً ساحراً وتفصيلياً لها، هناك الشاب اوستاش بوترو، الذي اذ يجعله الكاتب يتجوّل في شوارع عاصمة النور، يقدمه لنا بوصفه فتى وسيماً، يتيم الأبوين قيّض له بفضل ظروف معينة أن يمتهن صناعة الأغطية. وهو ناجح في عمله، لكنه قلق بعض الشيء على مستقبله. ومن هنا، حين يصل الى مقربة من «الجسر الجديد» (بون نوف)، ويلتقي بشخص جالس يزعم قدرته على التنبؤ بالمستقبل ومعرفة الماضي، يطلب منه ان يقرأ له طالعه. هذا الرجل يدعى المعلم غونان، وهو سرعان ما يستجيب ويكشف للفتى ماضيه (ويوافقه اوستاش على صحة كل ما يقول)، ثم يقرأ له مستقبله وفيه ان اوستاش سيلتقي فوراً بابنة معلمه في العمل، الحسناء جافوت، وأنه سيقترن بها. لكنه في المقابل سيعيش وضعية تقوده الى ان يعدم شنقاً. في البداية لا يصدق الفتى هذه النبوءة. ومع هذا يساير المعلم غونان الذي يدله الى بيته سائلاً اياه ان يتصل به اذا احتاج الى عونه يوماً. واذ يبارح اوستاش المكان لاهياً بعض الشيء، يجد نفسه بالفعل امام الحسناء جافوت، وهي في صحبة عسكري ظريف ومرح، يبدو واضحاً انه من رماة القوس، ثم يتبين انه من أقرباء الفتاة. المهم ان الفتاة سرعان ما تبادل اوستاش حبه الذي يعلنه لها. ولا تمضي فترة الا ويكون اقتران اوستاش بجافوت قد تم، بعد ان يكون اوستاش قد نسي نبوءة المعلم غونان. لكن الذي يحدث هنا هو ان اوستاش يجد نفسه مضطراً الى دعوة الجندي قريب زوجته الى للاقامة معهما في البيت. وفي المقابل يواصل هذا مرحه وسخريته من كل شيء ولا سيما من اوستاش الذي ينتهي الامر به الى طرده من البيت. فيحتدم بينهما صراع يدعو الجندي اوستاش على أثره الى المبارزة. ويصعق اوستاش: كيف سيبارز جندياً وهو بالكاد يعرف كيف يحمل سيفاً؟ ويكون الحل في تذكره المعلم غونان الذي كان شجعه على الاتصال به في حال الضرورة. وهكذا يزور اوستاش غونان واعداً إياه بإعطائه مئة إيكو، خلال عشرة ايام إن هو خلّصه من هذه الورطة. ويستجيب المعلم مزوداً اياه بيد سحرية لا تقهر، ستمكنه من الانتصار على أي خصم له. وفي المبارزة في اليوم التالي، تقوم اليد بمهمتها، وتقتل الجندي الخصم، على رغم ان صاحبها لم يكن يريد اكثر من جرحه، لأن القتل في مثل تلك الحالات يكون عرضة للعقاب. خصوصاً ان ضباطاً في الجيش مسؤولين عن الجندي القتيل يشتبهون بأن اوستاش غشّ خلال المبارزة ويقيمون دعوى قضائية عليه. هنا لا يكون امام اوستاش إلا ان يلجأ الى رجل عدل باريسي كبير طالباً منه العون، فيعده هذا بالمساعدة. لكن ما يحدث هنا هو ان اياماً عدة كانت قد انقضت، وخلالها لم يدفع اوستاش للمعلم غونان المبلغ الموعود، ما يجعل اليد تتصرف على هواها. وهكذا ما ان يبادر اوستاش بتحية الوداع للمسؤول القضائي الكبير، حتى تنطلق اليد وتصفع الرجل صفعة قوية مذهلة. طبعاً يكون ذهول اوستاش اكبر من ذهول القاضي. ولكن هذا لا يمنع القاضي من الغضب، حتى وإن كان اوستاش قد ركع من فوره على ركبتيه طالباً صفحه. بل ان اليد تنطلق مرة اخرى لتوجه الى وجه القاضي صفعة اكبر من الاولى. ما يدفع القاضي الى ان يدعو الحراس لمعاونته. وهكذا يجد اوستاش نفسه في السجن بتهمتين: قتل جندي في مبارزة غير مشروعة، وصفع القاضي مرتين. وإذ يوضع اوستاش في السجن تمهيداً لمحاكمته ثم شنقه، اذ صدر الحكم عليه بذلك، يجد ذات يوم المعلم غونان يقوم بزيارته، فيرتاح اوستاش لتلك الزيارة. لكن غونان سرعان ما يذكّره بأنه لم يدفع له حتى الآن مبلغ المئة ايكو الموعود. لذا فإنه مدين بيده للساحر. وقبل ان يفهم اوستاش شيئاً، يكون إعدامه قد تم على يد الجلاد. بيد ان يده تتحرك بمفردها مثيرة الرعب بين الحاضرين، ولا سيما رعب الجلاد نفسه الذي يسارع الى فصلها عن الذراع، فتنطلق من تلقائها وبسرعة مدهشة حتى تصل الى بيت المعلم غونان لتجد هناك ملجأها الاخير، وسط الحاضرين ومحاولتهم الهرب... ومن الواضح ان دي نرفال، اذ اوقف حكايته عند ذلك المشهد، كان ينوي على الارجح ان يكتب نصوصاً مقبلة، تبدأ - باليد - أي من حيث انتهت قصة «اليد السحرية» ولكن من الواضح ان الزمن لم يمهله، اذ انه مات بعد ثلاث سنوات من صدور القصة، ما جعل وصول اليد الى بيت الساحر، نهاية المطاف. ومع هذا، من المؤكد ان النقاد والباحثين لم يموضعوا اهتمامهم بهذه الحكاية عند ذلك الجانب منها. بل في مجال آخر، كما اشرنا. ذلك ان دي نرفال الذي كانت رحلته الى الشرق (وما كتبه عنها)، قد اكسبته قدرة هائلة على وصف التفاصيل، ابدع هنا حقاً، في وصف الحياة الباريسية والذهنيات العامة في باريس، خلال زمن ندرت النصوص التي جاءت لوصف الحياة الشعبية وحياة المدينة فيه. ومن هنا اذا كانت «اليد السحرية» تقرأ كرواية غرائبية تحاكي روايات هوفمان، فإنها اكثر من هذا تقرأ كرحلة في قلب باريس وفي أوساط اهلها. حتى من دون ان يكون جيرار دي نرفال (1808-1855) قد قصد ذلك اصلاً. [email protected]