«أفتراك لم تفكر أبدا بأن هذه الشعوب الخاضعة للهيمنة التركية، والتي تحمل اسماء مختلفة وتمارس شعائر دينية مختلفة (...) يتوجب عليها ان توجد يوما قاعدة مشتركة لوجودها، وصيغة لهذا الوجود تكون أكثر فساحة وأكثر عقلانية وانسانية؟». هذا السؤال تطرحه واحدة من شخصيات رواية «وقائع مدينة ترافنك» على شخصية أخرى ذات لحظة من لحظات أحداث الرواية. وهو سؤال يكاد يختصر، بكل بساطة عالم هذه الرواية الساحر، ومناخها الذي لم يفت بعض الباحثين مقارنته بالأجواء التي عرف ليو تولستوي كيف يرسمها في روايته الكبرى «الحرب والسلام». وحتى إذا كان من الصعب النظر الى مؤلف «وقائع مدينة ترافنك» على ان له قامة أدبية تطاول قامة تولستوي، فإن من السهل المقارنة بين روايتيهما هاتين من منطلق اشتراكهما في الحيز الزمني الذي تعبّران عنه (أيام الحملات النابوليونية) ولكن أيضاً من منطلق تعبيرهما معاً عن قيم انسانية شديدة المعاصرة للزمن الذي عاشا فيه، بقدر ما هي معاصرة للزمن الذي يرصدان أحداثه في كل من الروايتين. وهكذا لئن كان من المنطقي القول ان «الحرب والسلام» تعود الى حقبة الحملة النابوليونية على روسيا، لتصوير روحية نهاية القرن التاسع عشر، فإن من المنطقي أيضا القول ان «وقائع مدينة ترافنك» تعود بدورها الى الحقبة النابوليونية لتعبر عن الزمن الذي كتبت فيه: أواسط القرن العشرين. بل أكثر من هذا: النصف الثاني من القرن العشرين، حين راحت تظهر من جديد تلك العصبيات القومية والدينية الحالّة محل حقب من العقلانية (المصطنعة كما قد يقول البعض الآن). ويمكننا حتى ان نقول ان «وقائع مدينة ترافنك» في رسمها لتلك العصبيات والتناقضات انما كانت تصف جذور «المسألة الشرقية» برمّتها، بدءاً من ظهورها مع بدء ظهور معالم الوهن في الإمبراطورية العثمانية وحتى يومنا هذا -للأسف-. ولعله من الأمور اللافتة ان نجد في بعض مواقف وحوارات «وقائع مدينة ترافنك» ما يذكرنا بصور عن ضروب التنافس الاستعماري الغربي على منطقتنا العربية صورها كتاب مثل جيرار دي نرفال على حقيقتها، وعلى ألسنة لاعبيها في كتب مثل «رحلة الى الشرق». إذ هنا حسبنا أن نقرأ حواراً بين دي نرفال وشخص انكليزي غامض، دار في مطعم في بيروت العتيقة لنشعر كما لو أننا دخلنا رواية «وقائع مدينة ترافنك» ومنطقة البلقان بأسرها، ذلك ان مدينة ترافنك تقع في البلقان وتحديداً في البوسنة، أما وقائع المدينة التي تصفها الرواية فتحدث أوائل القرن التاسع عشر أيام الحكم العثماني والحملة النابوليونية. مؤلف «وقائع مدينة ترافنك» هو الكاتب البوسني/ اليوغوسلافي ايفو اندريتش، الذي حققت اعماله شهرة كبيرة وترجمت الى العديد من اللغات بعد نيله جائزة نوبل للآداب في العام 1961. ولقد عرف اندريتش على نطاق واسع من القراء العرب يومها، وبخاصة بعدما ترجم العديد من رواياته الكبرى الى لغة الضاد ومن بينها «جسر على نهر ألدرينا» وبخاصة «وقائع مدينة ترافنك» التي دهش القراء العرب لفرط ما عثروا فيها على أجواء شرقية وأبعاد تكاد تنتمي مباشرة الى شؤون المشرق العربي وشجونه. كتب ايفو اندريتش روايته الكبرى هذه خلال الحرب العالمية الثانية، في زمن كان يعيش فيه في شبه عزلة وسط بلغراد التي كان الاحتلال الألماني النازي قطعها عن العالم... لكن الرواية لم تنشر إلا في العام 1945، أي بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية، في الوقت نفسه الذي نشرت فيه روايتان كبيرتان أخريان له هما «جسر على نهر ألدرينا» و «الآنسة». غير ان مشروع «وقائع مدينة ترافنك» لم يولد خلال الحرب، بل قبل ذلك، إذ ان الكاتب عاش طوال السنوات السابقة لاندلاع الحرب الهتلرية، متنقلاً بين باريس وفيينا وغيرهما من المدن، أحيانا ليجمع من الوثائق ما يمكّنه من أن يعطي الأحداث التاريخية التي يريد وصفها أبعادها الواقعية، ذلك ان الرواية بقدر ما تتحدث عن مدينة ترافنك أوائل القرن التاسع عشر، تستخدم للحديث عنها، مسار شخصين عاشا فيها في الوقت نفسه: القنصل الفرنسي والقنصل النمسوي. وفي ذلك الحين كانت فرنسا والنمسا القوتين الكبيرتين في أوروبا. وكانت كل واحدة منهما، على طريقتها، تسعى الى وراثة الامبراطورية العثمانية في جزء من «ممتلكاتها»، خصوصاً ان نابوليون كان يعيش في ذلك الحين ذروة مجده، ويخوض على المستوى الأوروبي كله حروباً طاحنة. وسط هذه المناخات، إذاً، تدور أحداث «وقائع مدينة ترافنك». والأحداث تبدأ يوم الاعلان عن وصول قنصل فرنسا الجديد دافيل، الى مدينة ترافنك، حيث سيعيش الرجل ويقوم بمهماته الديبلوماسية وسط سكان مقسومين في ما بينهم تماما ويعيشون حالة عداء ممزوجة بالترقب بعضهم تجاه بعض (هل يذكرنا هذا بأمر ما مثلا؟): في ترافنك كانت تعيش شتى أنواع الطوائف والقوميات والأديان، ومن بين هؤلاء جميعاً كان أبناء الطائفة اليهودية الوحيدين الذين يتمنون انتصار نابوليون. الكاثوليك يحبون فرنسا بالطبع، لكنهم يكرهون نابوليون لأنه «كافر» وعدو البابا. أما الأورثوذكس فيتوجهون بآمالهم صوب روسيا وقيصرها، بينما المسلمون الذين يعيشون في المدينة مهيمنين مميّزين فإنهم ملتحمون بالآستانة، ومرتاحون الى أوضاعهم، يتطلعون الى الانقسامات الأوروبية على انها الفرصة الذهب التي ستمكن تركيا من أن تستعيد أحلامها بالسيطرة على العالم مجدداً. كانت تلك هي الذهنيات التي وجدها دافيل مهيمنة في المدينة التي وصلها محمّلاً بأفكاره التنويرية وولائه لنابوليون وحديثه الدائم عن حرية الشعوب وتطوّرها. ولكن في مقابل دافيل، الفرنسي، هناك أيضاً القنصل النمسوي فون ميتيرير، الذي يصل بعد دافيل بشهور قليلة ليمثل بلاده في المدينة، مجابهاً دافيل وأنصاره. وهكذا، من خلال المجابهة بين الرجلين وما يمثله كل منهما، نعيش أحداث المدينة في يومياتها وترقبها. غير ان اندريتش، بصفته كاتباً كبيراً من كتاب القرن العشرين، حرص على أن يعطي شخصيتيه هاتين أبعاداً إنسانية تتجاوز متطلبات حضورهما السياسي والديبلوماسي. وينطبق هذا بخاصة على شخصية دافيل، فهو رجل تنوير، يعيش شكوكه وأحلامه الخاصة ويحاول أن يفهم الناس ويقيم علاقات معهم، لا سيما مع أحمد بك، الحاكم التركي الذي يعتبر إرساله الى المدينة ليحكمها عقاباً له، لا تكريماً. وهكذا، من خلال الصراع بين القنصلين، والحوارات بين الفرنسي والبك، ومن خلال وصف الحياة اليومية للسكان، نعيش، نحن القراء، وبخاصة إذا كنا ننتمي الى أوضاع تشبه أوضاع المدينة في تلك الحقبة، نعيش مناخات الترقب والخيبات والصراعات، ونفهم سر ما سيسميه أمين معلوف لاحقا ب «الهويات القاتلة». سنعيش في خضمّ مدينة سرعان ما يتحول ترقبها كابوساً ويومياتها جحيماً مقلقاً، يصل حتى برجل التنوير الفرنسي دافيل (وهو شخصية بناها الكاتب انطلاقا من شخصية قنصل فرنسيّ حقيقي يدعى بيار دافيد، كما ان القنصل النمسوي ميتيرير، مستقى من قنصل حقيقي هو ميتيسير)، الى خيانة نفسه في نهاية الأمر، حين يرسل برقية الى وزارته في باريس يعلن فيها ولاءه بعد سقوط نابوليون... فيما المدينة تواصل آلامها وتمزقاتها الداخلية. ايفو اندريتش (1892 - 1975) كان الكبير بين الكتاب اليوغوسلافيين في القرن العشرين، وهو بدأ حياته متحمساً للبوسنة ومدينة ترافنك مسقط رأسه فيها، ثم بعد توحيد يوغوسلافيا، صار شديد الحماسة للوحدة اليوغوسلافية التي رحل عن عالمنا من دون ان يدري انها سوف تنتهي بعد سنوات قليلة من رحيله. واندريتش كان كاتباً وديبلوماسياً. وهو، كما أشرنا، نال جائزة نوبل للآداب في العام 1961، وترجمت رواياته الى عشرات اللغات. وكانت «وقائع مدينة ترافنك» أشهرَها، الى جانب «جسر على نهر ألدرينا»، و «طريق عليا جزرلش» و «بلاط ملعون» و «القلق»، اضافة الى مجموعات شعرية عدة أصدرها خلال مراحل متفرقة من حياته. [email protected]